ثقافة وفنون

الأديب والشاعر عماد علي قطري يكتب …. الشيخ رضا مات

الشيخ رضا مات
فجرا يخرجون إلى مواقعهم المتناثرة عند حواف المدينة الساكنة , يحملون أحلامهم البسيطة وعدتهم الخفيفة غير آبهين بهذا البرد المتسلل للعظام في هذه الفجرية
السبت يأتي سريعا عقب جمعة لم تمكنهم من استكمال غسيلهم المتكوم على مدار أسبوع كامل من التعب و الشقاء فارتدى بعضهم ملابسه الطرية التي زادت من إحساسه بالبرودة
بعض أخشاب تكفي لنار لا يجدون عليها سوى دخان رمادي و بعض شاي ثقيل يكافحون به الرعشة السارية في البدن ويتبادلون بضع نكات وضحكات مسروقة
يصعدون الدرج حيث السقف تحت الإنشاء و الخشب المندى يرتاح بانتظار مناشيرهم اللعينة و شاكوش يجيد دق المسامير الصدئة بينما المساعدون ينفذون ما اؤتمروا به في صمت لا يليق
مثل لاعب سيرك ماهر ينتقل الفتى القروي على عروق الخشب المتراصة قبل فرش السقف بألواح خشب البلايوود السوداء محاذرا المسامير المتربصة بكل شيء منجزا طريحته في فخر ناعتا الرفاق بالكسل متباهيا بوراثة الصنعة أبا عن جد
فجرا ككل العصافير يخرجون إلى الفضاء المهيب , المطر الذي صلوا لأجله يرسل زخاته في تؤدة تليق بيناير البارد وهم في الباص يمنحهم البخار الخارج من الأفواه شعورا مختلطا بالحزن و الصمت و التأمل بينما يداعب النعاس عيون من سهروا أمام تلفاز أو اتصال طويل بالبعيدين في الوطن البعيد
الشيخ رضا وقع مات
قالها الولد النحيل صارخا وباكيا , هرول الجميع نحو الجسد النازف بشدة من الرأس المرتطم بالسقف الخرساني البارد , العيون تخترق الصراخ و الدم و الأخشاب المتناثرة في كل مكان
هز المسعف رأسه في أسى : مات.. أردف في غباء بيّن : نحن لا ننقل الموتى ثم أضاف في بلاهة : الشرطة
الضابط ذو النجمتين الذهبيتين و اللحية الباسمة رغما عنه قال في حزن بالغ : لعن الله الغربة و أضاف : من منكم شاهد القتيل عند سقوطه ؟
قال سعد : كنت جواره هنا على بعد مترين و في ثانية لم أجده فوق السقف … سبقت رأسه جسده
كان عادل الفارع الطويل يهتز بكاء و يرتعد نشيجا كطفل يتيم بينما أسامة يعجز عن البكاء فيولول مثلى ثكلى و الكل في ذهول
هل دفعه أحد ؟ هل بينه و بين أحدكم عداوة ؟ هل من قريب له بينكم ؟ من المسئول هنا ؟ أشار بعضهم نحوي في تردد
توالت الأسئلة وازدحم المكان بالإجابات البسيطة بينما كان البكاء يعبر المكان حاملا ذكر مواقف عديدة تشهد بحب الراحل النازف فوق السقف الخرساني البارد
في قسم الشرطة اكتملت التحقيقات وأرسلت الجثة مع خطاب بضرورة توقيع الكشف الطبي و تحديد سبب الوفاة و موافاة بتقرير شامل
في مستشفى النور التخصصي سكن مؤقتا بالثلاجة حاملا الرقم 157 وفيات بانتظار الإفراج بعد صدور تصريح الدفن الذي يحتاج توكيلا من ذويه بمصر البعيدة وخطاب من القنصلية المصرية في جدة
خلوه في التلاجة يا سيدي لبكرة … قالها الموظف في برود عبر هاتف بارد للمعقب السعودي المكلف بالشئون الإدارية في المؤسسة الذي طلب خطابا من القنصلية لاستخراج التصريح معللا ذلك الرد بقوله : اليوم السبت أجازة يا محترم
عبر فاكس بليد وصل التوكيل من الزوجة المكلومة القابعة على صغيرها الباكي ذي السنوات العشر و أختيه الذاهلتين و تسمح في توكيلها بدفن الجثمان في البقعة المقدسة الطاهرة
غادرها قبل ثلاث ليال واعدا قلبها الذي أحبه بتذكر لا يموت وحاضنا الصغار بشوق جارف ممنيا الصغير بعجلة كبيرة تناسب سنواته العشر و تفوقه الدراسي وبينما دمعة خائفة تفر من عينيه وعد الصغيرتين بحلق ذهبي و عروسة وفساتين كثيرة مذكرا الجمع الباكي باتصال يومي عبر سكايب يجعل الغربة شيئا سهلا
في مستشفى النور التخصصي قابلت صديقي Dr-mahmoud . Osmanأ. د محمود عثمان المدير الطبي المناوب و طلبت منه التدخل فاتصل بصديق له في القنصلية المصرية بجدة طالبا المساعدة في الأمر والذي طلب بدوره بعض الخطابات و تقرير الشرطة حول الحادث مؤكدا على ألا يكون بالتقرير وجود شبهة جنائية و إلا لن يستطيع إرسال خطاب القنصلية
ترك الجميع مواقعهم في العمل وجاؤوا فرادى و جماعات ليكونوا في مواساة بعضهم البعض فيما حزن جاثم على الصدور يعيد تفكيرهم للبلد البعيد ,والكل يحدث نفسه ترى من عليه الدور ؟ وماذا يكون الموقف ؟ ومن … و متى و هناك و هنا و ألف سؤال و مليون هاجس
ليلا جاء المستشار محمد البيلي مستشار القنصلية المصرية بجدة بعد اتصال شخصي وشارك الجمع الحزين العزاء فيما كان الصمت والحزن يخيمان على المكان كان صاحب العمل يواسي الجميع بنبل إنساني فريد واضعا كافة الإمكانيات المادية و المعنوية تحت تصرفنا لإنهاء المراسم بشكل يليق بإنسان
إفراج بعد التصريح الممتلئ بالأختام المتعددة و البيانات الدقيقة و في الطريق للمغسلة بجامع المهاجرين ضج الجميع بالبكاء و صرخ الفتى النوبي : ملعون أبو الغربة على اللي غربنا
فجرا يخرجون إلى لقمتهم المخضبة بالعناء … و فجرا يدخلون بالجثمان إلى الحرم المكي الشريف لصلاة الجنازة التي ضمت سبعا غيره وكان السكون مهيبا لا تقطعه سوى تكبيرات أربع للإمام الخاشع ذي الصوت المتهدج
في مقابر الشرائع وجهنا العمال الأسيويون إلى المقبرة المخصصة حديثة البناء والتي حملت الرقم 478 فنزل أبو عطية زميله في الغربة و الغرفة وشاركه زميله الممتلئ في تناول الجثمان ووضعه على شقه الأيمن كما أوصى صوت قادم من الخلف
أغلق العامل البنجالي القبر بهدوء مشيرا إلى الرفاق بوضع التراب فوق السقف الذي اختفي الجثمان أسفله بينما دعوات وبكاء و همهمات تحف المكان الساكن بين جبلين عظيمين
تراص الجميع لتقبل العزاء يتقدمهم صاحب العمل وبعض الرفاق … وقوفا على بطحاء مكة المبللة بالندي الصباحي قدموا العزاء … غريب يعزي غريبا في غريب و الشمس تخرج في حياء لتمنح الدموع لونا قانيا يليق بوداع حزين
البقاء لله

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى