كتاب وشعراء

أثناء معرض الكتاب 2024 .. بقلم : محمد عاطف سلامة

( أثناء معرض الكتاب 2024 )
صديقي الذي جمعني به العمل معاً بمدينة شرم الشيخ محافظة جنوب سيناء، وكان ذلك في مُقتبل العمر، الزميل محمود الهواري الطيب والمُسالم والذي كان يشاركني حب أغاني أم كلثوم ونجاة وعبد الحليم إلى أخر منظومة فَلتات الزمن الجميل من جِيل الرواد، الجيل الذي كان على موعد مع القدر، وكذلك الإعجاب بموهبة أمل مصر في الموسيقى كما وصفه العندليب الأسمر الفنان ” بليغ حمدي”، وكنا نستمع أيضا لشرائط الكاسيت من قرآن كريم للشيخ البنا والشيخ عبد الباسط عبد الصمد وآخرين .
فلقد ماتت زوجة الهواري وهى في عز شبابها وتركت له إبنة وحيدة، فلم يتزوج بعدها وعاش هو وابنته مُكتفياً بها ومُضرباً عن الزواج، وكان يغضب ممن يأتي على تذكيره بأن يرتبط بزوجة لكي تفتح البيت في غيابه، إلا أنه كان يقول البركة في والدتي التي تعيش معي وترعى طِفلتي، ولأنني بعدها بفترة تركت العمل بشرم الشيخ، واخذتني الحياة نظراً لظروف العمل، حيث نمى إلى عِلمي بعدها أن الهواري يعيش مع ابنته التي تعلقت به حتى أنها كبرت وكانت ترفض الزواج خصوصاً بعد وفاة جدتها لأبيها، فكانت تُشفق على أبيها من الفراغ القاتل، إلا أنها ونظراً لإلحاحه في أن يطمئن عليها فتزوجت من شاب ذكي وطموح يعمل في شركة كبيرة، كانت تسمح له ظروف عمله بالسفر المستمر فكان يصطحب زوجته معه في سفرياته، فضرب الفراغ المُفزع أركان بيت الهواري كما ضرب قلبه وعقله، إلا أن للقدر رأي آخر ومن إحدى عجائبه، أنني تقابلت مع محمود الهواري بعد هذه المدة محض صدفة بل محض قدر، بعد أن انقطعت الاتصالات بيني وبينه .
كان هذا اللقاء في إحدى رِدهات معرض القاهرة الدولي للكتاب لهذا العام 2024، فقد كان الهواري يسأل أحد الباعة على أحد الأرفف عن كتاب ( ألف ليلة وليلة ) وكنت واقفاً لحظتها فنظرت إليه بتمعن، حيث لم تتغير ملامحه كثيراً فوجدتني أصيح الهواري !!
وكانت ترافقه سيدة فاضلة من جمهورية سوريا الشقيقة ذات أصول كردية، فعرفني وعَرفني بها قائلاً لي زوجتي . فلقد أتت إلى مصر في أول أزمة الربيع العربي السوري، وذلك بعد أن تُوفي عنها زوجها وهاجر ابنيها إلى ألمانيا، وكانت تعمل مُعلمة فتركت كل شيء وجاءت إلى مصر، لأنها كانت زارت مصر من قبل وشربت من نيلها، كما أنها تعشق الكتابة والشعر حتى الأغاني المصرية والآثار الفرعونية، وقد كانت تبحث عن مسكن يأويها هى وأمها، فكانت الشقة التي بالدور الثالث من نفس العمارة التي يقطنها الهواري، ف [حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا]، وقد حدث تآلف وتجاذب وانجذاب بينهما.
فباركت له ولها هذا الزواج الذي جاء بعد إضراب تام وعزوف تام من قِبل صديقي الهواري، فدعوتهم لتناول القهوة على أحد الكافيهات المفتوحة بالمعرض أمام صالات العرض، وبعد أن جلسنا، قلت له أخيراً تم كسر حاجز الصوت يا هواري، فضحك من أعماقه، ثم أخبرني أنه وجد نصفه الآخر بعد أن ضاقت به السبل في البحث عن شريكة حياة قائلاً لي :-
بعد زواج ابنتي شعرت بالفراغ من حولي وكنت أستمع دائماً لأغنية قارئة الفنجان بصوت العندليب وأردد باكياً المقطع :-
( وسترجع يوماً يا ولدي
مهزوماً مكسور الوجدان
وستعرف بعد رحيل العمر
بأنك كنت تُطارد خيط دخان
فحبيبة قلبك ليس لها
أرضٌ أو وطنٌ أو عنوان )

إلا أن القدر تعامل معه بسخاء تام كما أخبرني، ثم نظر إلى السماء خاشعاً حامداً شاكراً وهو يتحدث، والزوجة الكردية تُنصت له بشغف وبكل جوارحها وأحاسيسها وهى تُداعب خُصلات شعرها ذي اللون التُوتي، فقال عندما وجدتني يا صديقي وجهاً لوجه أمام تلك المرأة المُثقفة المُتحضرة الشاعرة التي تَغزل بأنامِلهِا وقلبها حروف البَيان الراسخ البُنيان، علاوة على كونها لملمت ما تبقى من أشلائي المُبعثرة، بظروفها التي لامست نِياط القلب فأنستني عُمراً من الألم، وتداعي الجمال وسقط خجلاً ولم يصمد أمام جمال روحها، فلم أَشُك في أحاسيسة ثم ذهب بعيداً وشرح غير آبه بروعة قَدها الذي يُمثل جغرافيا مُتقنةٌ، تتمتع باقتصادٍ زاهر ، والبِنَى التحتية مُكتملة تماماً، بل تعمل بكفاءة تامة مُنقطعة النظير، فلقد صنعت وأقامت حضارة على ركائز متينة وتضاريس خلابة جذابة، لا تُضاهيها تضاريس سوى تضاريس موطنها الأصلي كونها إبنة من أبناءِ الجبال، كما أنها تُتقن فن الطَهي السوري الشهي، وعندما انتقلت إلى بيتي هى وأمها بعد زواجنا، جعلت من شقتي مملكة بحق، فبعد أن كانت تطغى على الشقة صفة العشوائية والفوضى في كل شيء، فقد صار البيت نظيفاً رائعاً مُرتباً وفي أبهى صورة، فعلى الحائط تشاهد التابلوهات ( الإيبسون )، ثم تسمع صوت زقزقة عصافير التين بأحد أركان البيت، ثم تُشاهد أسماك الزينة التي تسبح بحوض الأسماك الشفاف، ووزعت أَصَائِص الزرع الفُخارية والتي نبت فيها الياسمين الذي تسلق جدران البلكونة، بالإضافة إلى أنها عَمرت أحد أركان الشقة بمكتبةٍ تحوي العديد من الكتب، ثم أصبح البيت أشبه بمملكة، كانت هى فيها السلطانة ووجد الهواري حاله أنه سلطان زمانه، فيستمع لصوت الموسيقى الهادئة، ويشتم رائحة البَخور والعطور المَمزوجة برائحة دخان سجائرها ( الكِنت ) التي تُدخنها مع فنجان قهوة الصباح، فلا تُحدث نفسك وأن لا يراودك للحظة أن يكون بإمكانك سيطرة على مثل تلك حضارة ومُحالٌ جداً ترويضها، فنظرت إليها وقلت لها هنيئاً له بكِ وهنيئاً لكِ به فقالت يقولون :-
كل الأعمال بالنيات ..
فِيما عدا الحب بالأقوالِ والأفعالِ ..
كما أنه حسمت القضية كوكب الشرق السيدة أم كلثوم حين قالت :-
( بَين لي انت الإخلاص
وانا أضحي مهما قاسيت ) .
فالحمد لله الهواري نجح وسيطر على مشاعري واغتنى بي بالأقوال والأفعال وفوقهم الإخلاص ….
ورغم هذا الدفء الذي اكتشفت ولاحظت وشاهدت، إلا أن الهواري يؤرقه أن القدر لم يشأ أن يُنجب منها بعد ………
———————-
نبضات الذكريات ج٣
بقلم محمد عاطف سلامة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى