وحيد عيادة يكتب : عناقيد العنب !

تصور معي هذا المشهد: شخصا ما يقف على حافة بحر ، ينظر إلى الأسفل حيث الأمواج المتلاطمة، وبدلًا من أن يقفز، يلتفت إلى الخلف ويقول: “الحياة لا تستحق كل هذا الحقد!” ثم يمشي بعيدًا بابتسامة غامضة. هل تعرف لماذا فعل ذلك؟ لأنه اكتشف أن الحقد أشبه بسمّ بطيء، يقتل صاحبه قبل أن يقتل ضحيته.
إننا نعيش في عالم يبدو أحيانًا كمسرحية هزلية، حيث الجميع يلعب دور البطل، لكن خلف الكواليس، هناك دائمًا شخص ما يحمل محيطا من المؤمرات و سكينًا من الحقد، مستعد لطعنك في الظهر. السؤال الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا: لماذا نسمح لهؤلاء الأشخاص بأن يسرقون سلامنا؟ ولماذا نستمر في التفاعل مع حقدهم وكأنه جزء طبيعي من حياتنا؟
في التراث الإسلامي، نجد إجابات عميقة لهذه الأسئلة. يقول النبي محمد صلى الله عليه وسلم: “ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب”. تخيل أنك في موقف صعب، شخص ما يحاول إغضابك، وأنت تبتسم وتتحكم في غضبك. هذا ليس ضعفًا، بل قوة تفوق قوة أي ملاكم أسطوري .
القرآن الكريم أيضًا يذكرنا: “وَ ٱلْكَاظِمِينَ ٱلْغَيْظَ وَٱلْعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِ” . التسامح هنا ليس مجرد فضيلة، بل هو سلاح قوي ضد الحقد.
لكن دعونا ننظر إلى الجانب الآخر من القصة. ماذا لو كان الشخص الذي أمامك لا يستحق التسامح؟ ماذا لو كان ينسج من خياله المؤامرات و يؤلف القصص ، شخصا حاقدًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى؟ هنا يأتي دور “التغافل”، وهو فنّ لا يتقنه إلا الأقوياء. التغافل ليس تجاهلًا ساذجًا، بل هو قرار واعٍ بعدم السماح للحقد بأن يسيطر على حياتك. تخيل أنك تمشي في الشارع وتعثرت بحجر ثم سقطت علي الأرض ، هل ستقف لتلعن الحجر أم ستستمر في طريقك؟ التغافل هو أن تستمر في طريقك.
في الأدب العالمي، نجد أمثلة مذهلة عن الحقد والتسامح. في رواية “الأبله” لدوستويفسكي، البطل الأمير ميشكين يحاول أن يكون طيبًا في عالم مليء بالخداع والحقد. النتيجة؟ الجميع يعتقد أنه أحمق. لكن هل هو حقًا أحمق؟ أم أن العالم من حوله هو المريض؟
وفي رواية “عناقيد الغضب” لجون شتاينبك، نرى كيف أن الحقد يمكن أن يدمر المجتمعات، بينما التسامح يبني جسورًا من الأمل.
و لكن : هل سمعت يومًا عن “عناقيد الغضب”؟ نعم، تلك الكتلة الثقيلة التي نحملها على أكتافنا، مليئة بالقلق والحقد والضغينة. تخيل أنك تحمل سلة مليئة بالحجارة الساخنة، كل حجر يمثل غضبًا أو حقدًا تجاه شخص ما. هل تعرف ما الذي يحدث؟ كلما حملت هذه السلة لفترة أطول، كلما أصبحت أكثر تعبًا وأقل سعادة.
لكن ماذا لو استبدلنا هذه السلة بأخرى مليئة بعناقيد العنب؟ نعم، عناقيد العنب الحلوة التي تذوب في فمك، وتذكرك بأن الحياة مليئة باللحظات الجميلة التي تستحق أن نستمتع بها. التسامح هو مفتاح هذه السلة الجديدة. عندما تختار أن تسامح، فإنك ترمي الحجارة الساخنة بعيدًا، وتترك مساحة في قلبك لتتذوق طعم الحياة الحقيقي.
تخيل نفسك جالسًا في حديقة مشمسة، تمسك بعنقود عنب وتتناوله ببطء، بينما تترك كل الأفكار السلبية تتبخر تحت أشعة الشمس. هذا هو التسامح: أن تختار أن تكون سعيدًا، أن تختار أن تعيش بسلام، وأن تترك الحقد للآخرين الذين لا يعرفون كيف يتذوقون طعم العنب الحلو.
الحياة قصيرة… فلماذا نضيعها في الغضب؟
الحقيقة المرة هي أن الحقد مثل النار: إذا لم تطفئها، ستلتهم كل شيء حولها. لكن الخبر السار هو أنك لست مضطرًا لأن تكون وقودًا لها. يمكنك أن تختار أن تكون الماء الذي يطفئها.
لذا، دعونا نطرح سؤالًا أخيرًا: هل نستحق أن نعيش حياتنا كضحايا لحقد الآخرين؟ أم أننا نستحق أن نعيش بقلوب خفيفة، مليئة بالسلام والتسامح؟ الجواب واضح: الحياة قصيرة جدًا لنضيعها في دوامة الحقد.
في النهاية، تذكر دائمًا: التسامح ليس هدية تقدمها للآخرين، بل هو هدية تقدمها لنفسك. لأنك، في النهاية، تستحق أن تعيش حياة مليئة بالسلام، وليس بالحقد. فاترك عناقيد الغضب، وتناول عناقيد العنب، واستمتع بالحياة كما هي: حلوة، منعشة، ومليئة بالحب و الخير و الجمال .