رؤي ومقالات

إبراهيم أبو عواد يكتب :فلسفة الحرب بين المتنبي وهوميروس

يُعْتَبَرُ المُتَنَبِّي ( 303 ه _ 354 ه / 915 م _ 965 م ) أعظمَ شُعَراءِ اللغةِ العربيةِ على الإطلاق . تَدُورُ مُعْظَمُ قَصائدِه حَوْلَ نَفْسِه ومَدْحِ المُلوكِ ، وأفضلُ شِعْرِه في الحِكمةِ وَفَلسفةِ الحَياةِ وَوَصْفِ المَعاركِ والحُروبِ . لَمْ يَصِف الحَرْبَ كَحَدَثٍ دَمَوِيٍّ فَحَسْب ، بَلْ جَعَلَها مِرْآةً للمَجدِ والبُطولةِ والكَرامةِ ، وَصَوَّرَهَا بِعَيْنِ الفارسِ الذي يَرى في المَعركةِ مَيدانَ الاختبارِ والخُلودِ . وَرَغْمَ تَمجيدِه للحربِ ، لَمْ يَكُنْ غافلًا عَنْ قَسوتها ، فَهُوَ يُدْرِكُ آلامَها ، لكنَّه يَرى فِيها قَدَرًا لا مَفَرَّ مِنْهُ لِمَنْ طَلَبَ العُلا ، فالمَجدُ لا يُنالُ إلا بالتَّضحية ، ولا يُصَانُ إلا بالقُوَّةِ .
والحَرْبُ في شِعْرِهِ لَيْسَتْ صِرَاعًا بَيْنَ الجُيوشِ فَحَسْب ، بَلْ هِيَ أيضًا رَمْزٌ للحَياةِ التي لا تَسْتَحِقُّ أنْ تُعاش مِنْ غَيْرِ مَجْدٍ أوْ شجاعة، وَهِيَ التي تَكْشِفُ حَقيقةَ الرِّجالِ، وَتُظْهِرُ طَبيعةَ البَشَرِ، وتُميِّز الأبطالَ مِنَ الجُبَناءِ ، فالشَّريفُ يَزداد شَرَفًا ، والوَضِيعُ يَظْهَرُ جُبْنُه وخِيانته ، وَهِيَ الطريقُ إلى المَجْدِ الذي لا يُنال بالرَّاحةِ أو التَمَنِّي ، وَهِيَ امتحانُ الإرادةِ الإنسانيَّة . لذلك كانت الحربُ في نَظَرِه مِيزانًا أخلاقيًّا يَكْشِفُ مَعَادِنَ الناسِ .
حَوَّلَ ساحةَ المَعركةِ إلى لَوْحَةٍ حَيَّة ، تَضِجُّ بالحركةِ والأصواتِ والألوانِ ، فالسُّيوفُ عِندَه تَلْمَعُ كالبُروقِ، والخُيولُ تُزَمْجِرُ كالعواصفِ ، والدِّماءُ تُزْهِرُ كالوَرْدِ في الرِّمالِ ، والغُبارُ يَلُفُّ الأُفُقَ كالغَيْمِ المُشتعِل. إنَّه يَصِفُ المَشْهَدَ وَيُجسِّده ، حَتَّى يَسْمَعَ القارئُ صَوْتَ الحَديدِ ، وَيَرى لَمَعَانَ الدُّرُوع .
والبَطَلُ في شِعْرِهِ هُوَ مَزِيجٌ مِنَ الإنسانِ والأُسطورةِ ، وَهُوَ يُقَاتِلُ لِيَنْتصر ، وَيُقيم عَدْلًا ، وَيَصْنع اسْمًا ، وَيَتَحَدَّى الظُّروفَ . والبُطولةُ الحقيقيةُ هِيَ مُواجهةُ المَوْتِ بابتسامةِ الكِبْرياءِ ، لذلكَ كثيرًا مَا يَرْبِطُ بَيْنَ الشَّجاعةِ والعِزَّةِ والعَقْلِ والدَّهَاء .
وَخَلْفَ أوصافِ الدِّمَاءِ والسُّيوفِ ، تَكْمُنُ رُؤية فلسفية عميقة ، فالحَرْبُ لَيْسَتْ عَبَثًا ، بَلْ وسيلة لإثباتِ الذات ، والنَّصْرُ الحقيقيُّ هُوَ نَصْرُ الرُّوحِ والإرادةِ ، وَمَنْ لَمْ يُغَامِرْ ، ماتَ صغيرًا ، حتى لَوْ عاشَ طويلًا . وَهُوَ يَرى أنَّ المَجْدَ الحقيقيَّ لا يُنال إلا عَبْر الخطرِ والمُغامرةِ ، خُصوصًا في مَيادينِ القِتالِ ، فَمَنْ يَطْلُب السَّلامةَ يعيشُ بِلا أثَرٍ ، أمَّا مَنْ يَخُوض الحربَ بِكَرامةٍ فَيُخَلَّد اسْمُهُ في التاريخ . والحربُ عِندَه وسيلة لتحقيقِ الخُلودِ الرَّمزيِّ ، لا مُجرَّد نَصْر مادي .
نَظَرَ إلى الحَرْبِ عَلى أنَّها صُورة مُكثَّفة للصِّراعِ الدَّائمِ في الحَياةِ ، بَيْنَ القُوَّةِ والضَّعْفِ، الطُّمُوح واليأس ، المَجْد والدُّونِيَّة . وكُلُّ إنسان في فَلسفته مُحَارِبٌ ، سَوَاءٌ في سَاحةِ القِتال ، أوْ في مَعاركِ الحَياةِ اليَوْمِيَّة .
وَيُعْتَبَرُ هوميروس ( القرن التاسع قبل المِيلاد ) أعظمَ شاعر في الأدب اليونانيِّ القديم ، وَهُوَ الشاعر المَنسوب إلَيْه تأليف مَلْحَمَتَي الإلياذة والأُودِيسَّة ، اللَّتَيْن تُعْتَبَرَان مِنْ أهَمِّ الأعمالِ الأدبية في الحَضارةِ الغَربية. وعلى الرَّغْمِ مِنْ مَكانته الأدبية ، فإنَّ تفاصيلَ حَياته الحقيقية غامضة .
قَدَّمَ وَصْفًا واقعيًّا وشاملًا للحربِ، بما في ذلك تفاصيل المَعاركِ والأسلحةِ، وَصَوَّرَ الحَرْبَ بطريقةٍ مَلْحَمِيَّة، تَجْمَعُ بَيْنَ البُطولةِ والمَأساةِ ، مُركِّزًا على الأبطالِ وتَضحياتِهم ، فَهِيَ المَيْدَان الذي يُخْتَبَر فيه الشَّرَفُ والبُطولة ، وَهِيَ لَيْسَتْ صِراعًا دَمَوِيًّا فَحَسْب ، بَلْ هِيَ أيضًا مَسْرَحٌ يُظْهِرُ فيهِ الأبطالُ قِيَمًا مِثْل: الشَّجَاعة والإقدام ( كما في شخصية أَخِيل )، والوَلاء للوطنِ والرِّفَاقِ ( كما في هيكتور المُدافِع عَنْ طُروادة ) ، والسَّعْي نَحْو المجدِ الخالد الذي يَتجاوز المَوْتَ .
وَرَغْمَ الطابَعِ البُطوليِّ ، يُظْهِرُ فَظاعةَ الحَرْبِ ، وَيَصِفُ الدِّمَاءَ والجِرَاحَ وَصَرَخَاتِ المَوْتِ بتفاصيل حَيَّة وَمُؤلِمة ، وَيُبيِّن حُزْنَ الأُمَّهَاتِ والزَّوجاتِ ، وَبُكَاءَ الأحِبَّةِ على القَتْلَى . فالحربُ تَجْلِبُ الدَّمَارَ للمُدُنِ والأُسَرِ ، وتَتْرُك خَلْفَها الألَمَ ، حَتَّى عِندَ المُنتصِرين . وهَكذا ، تَبدو الحربُ عِندَه ضَروريةً لكنَّها مأساويَّة ، فَهِيَ تُنْتِجُ البُطولةَ، لكنَّها أيضًا تَلْتهم الأبطالَ .
والحربُ لَيْسَتْ فَقَط صِرَاعًا بشريًّا ، بَلْ أيضًا ساحة لِتَدَخُّلِ الآلهةِ والقَدَرِ ، فالآلهةُ تَتَدَخَّلُ لدعمِ هَذا الطرفِ أوْ ذلك ، مِمَّا يَجْعل مَصيرَ الحربِ قَدَرًا مَحتومًا أكثرَ مِنْهُ نَتيجة لاختياراتِ البشر . ومعَ ذلك ، يَبْقى لِكُلِّ بطلٍ حُرِّية التَّصَرُّفِ ضِمْنَ حُدودِ هَذا القَدَرِ ، مِمَّا يُضْفي بُعْدًا فلسفيًّا وَدِينيًّا وأُسطوريًّا على مَفهومِ الحربِ.
وَهُوَ يَتَمَيَّزُ بأُسلوبٍ تَصويري رائع، حَيْثُ يَسْتخدم التَّشبيهاتِ المَلْحَمِيَّة ، فَيُشَبِّه المُقاتِلين بالعَواصفِ ، أو الحَيَوَاناتِ المُفترِسة، وَيُدْخِل إيقاعًا شِعريًّا يَجْعل المَعاركَ كأنَّهَا لَوْحَات مُتحركة مَليئة بالحركةِ والضَّوْءِ والصَّوْتِ، وَيُصوِّرها بشكلٍ دَقيق ومُفصَّل، بَدْءًا مِنْ تَجهيزِ الجُيوشِ ، والقِتالِ الفَرديِّ بَيْنَ الأبطالِ ، وحتى سُقوط القتلى وَجُثَثِهم ، والوصفُ يُعْطِي إحساسًا بالواقعيَّةِ والحُضُور .
والحربُ عِندَه لَيْسَتْ شَرًّا مُطْلَقًا ولا مَجْدًا خَالِصًا ، بَلْ تَجْرِبَة إنسانيَّة كاملة تَجْمَع بَيْنَ العَظَمَةِ والرُّعْبِ، البُطولة والفَناء ، المَجْد والحُزْن . وَهِيَ تَعْبيرٌ عَن طبيعةِ الإنسانِ نَفْسِه: عظيم في شجاعته، وضعيف أمامَ قَدَرِه. وهُناك قواعد ضِمْن الحَرْبِ تَتَعَلَّقُ بِمُعاملةِ الأسرى وكَرامةِ الخَصْمِ ، مِثْل احترامِ الجُثَثِ ، وَعَدَمِ السُّخرية مِنْها ، مِمَّا يُشير إلى مَفهومٍ بِدائي للعدالةِ والإنسانيَّةِ في أوقاتِ الصِّراعِ .
وإذا كانَ المُتَنَبِّي يُركِّز عَلى الفردِ والبُطولةِ الشَّخصيةِ في الحربِ ، معَ استخدام لُغَةٍ شِعرية مُركَّزة وَشَفَّافة ، فإنَّ هوميروس يَضَعُ الحربَ في إطارِ سَرْدٍ مَلْحَمِيٍّ شاملٍ يَجْمَع بَيْنَ الأبطالِ ، والآلهةِ ، والمَآسِي الجَمَاعِيَّة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى