رؤى ومقالات

عادل عبدالظاهر يكتب : ومن الأوطانِ أرحامٌ رحيمة

لعل أول صدمة مُنيَ بها جنس الإنسان كانت الطرد من جنة الخلد ، ومن يومها وحلقات مسلسل الطرد تتوالى، متمثلة في ولادة كل طفل ، بما تمثله عملية الولادة من طرد من نعيم الرحم إلى مصير آخر مجهول ، وقد كان في جنة الرحم ينعم بجنينيته ، ملتحفاً بقرار مكين ، لايجوع فيه ولا يشقى ؛ وهو ما يمثل نموذجاً لجنة الخلد التي عاش بها آدم ، وكأنما هي كانت جنة “مرحلية”، ومحض طور من أطوار الوجود ، ومَدْرجاً من مدارج الوعي ، لا يلبث المرء أن يغادره حتماً عندما “يستوفيه” إلى طور جديد.

ولذلكنسمي انتهاء الحياة «وفاة»، اشتقاقاً من “استيفاء” المرحلة حظها من الزمن والتجربة.

ويبدو أنها رحلة أبدية طويلة ، من محنة إلى محنة ، أو فلنقل من طريق صعب إلى آخر مجهول ، وعند كل منعطف في الطريق تكون هناك منحة ملقاة على قارعة الطريق ، لا يراها إلا اليقظون ، يميلون عليها فيلتقطونها راضين بها حامدين شاكرين مسبحين مهللين محوقلين ، بينما الذين غلب عليهم سباتهم ، فحرمهم نعمة الرؤية ، فهؤلاء من لا يستطيعون العثور على تلك الهدايا ، فيمضون من منعطف إلى منعطف ، لا يلوون على شيء ، فلا يبصرون المكافآت الإلهية عند كل منعطف.

يقذف الرحم الرحيم بالطفل بعد اكتمال نموه ، يصرخ الطفل من قسوة الطرد ومن صدمة التحوّل ، فهو انتقال حتمي ، بعد استيفاء المرحلة الجنينية ، أو فلنقل هي وفاة مرحلة الرحم ، وانتقال إلى مأوى جديد على الأرض ، فتسرع القابلة وتتلقف الطفل الوليد بلفافة تحتويه ، حتى يكبر فيتنقل من وطن إلى وطن ، يبدأ بوطن أمه ثم وطن أسرته ، فمدرسته ، فوظيفته ، إلى وطنه السياسي الكبير الذي يعيش داخل حدوده ، لا يغادره إلا  بجواز سفر.

وقلما تتوفر في كل تلك الأوطان نفس ظروف الوطن القديم ، في جنة الخلد ، أو في وطن الرحم ، إلا أن تكون تشبُّها.

والإنسان ، بل كل كائن حي ، بحاجة إلى رحم يحتويه وتأوي إليه روحه ، فلا يستطيع النوم ملء جفونه مطمئناً إلا في رحاب أمنه ، ويتدرج ذلك الوطن “الرحم” عبر مستويات عدة ، تبدأ برحم ذوي القربى ، إلى رحم المرعى ، حيث تقوم فيه رعاية الراعي بدور يعين على سكون النفس ، «كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته» ، ولقد أعلى الله من شأن رحمة الرحم وصلة شركاء الرحم الواحد ، حتى أوصلها بنفسه ، فمن وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله ، فهو خالق الأرحام ، ومبدع ما يُستن فيها من قوانين الرحمة والعدل.

وثمة بلدان سبقتنا في سلم الحضارة طمحت فتمكنت من إنجاز ضمان كامل لأمن الإنسان ، بل والحيوان أيضاً ، فلا يعيش كائن حي على أرضها إلا كريماً ، ولا يغادرها إلا كريما ، حتى أن وجود فكرة الحيوانات الضالة فيها قد أصبح أسطورة في كتب الذكريات ، فما بالنا بالبشر ، بينما لايزال معظم بني الإنسان في أوطاننا العربية والإسلامية مهمشين أو منسيين أو مطرودين من رحمة المجتمع فيما نعرفه بأطفال الشوارع أو معطلي الطاقات ، الساقطين من كل الحسابات ، الذين يهيمون على وجوههم في سياق واحد مع الحيوانات الضالة.

من محصول تلك التجربة الإنسانية في صناعة الأرحام وصلتها ورعايتها ، نعرف لماذا خلقنا الله أولاً في جنة خلد ناعمة ، ثم أخرجنا منها ، لتظل عالقة على جدران اللاوعي فينا ، وليعلم الله أيّنا أكثر إبداعاً في محاكاة الأصل ، وإعادة إنتاج الجنة المفقودة على الأرض ، لتعويض آلام الفقد أو التخفيف قدر المستطاع من قسوتها.

فمنا مَن ابتنى جنة بديلة على الأرض ، وحوّل الأوطان إلى جنات آمنة ، ومنا من جعل من رحم الوطن جحيماً طاردا لأبنائه إلى جحيم أقسى منه.

فهل يستويان مثلا ؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى