رؤى ومقالات

د. نيفين عبد الجواد تكتب :عرض الحياة أهم

                                               

عندما التحقت بكلية من الكليات التي يُطلق عليها العوام “كلية نظرية” لم أستطع في العام الأول أن أحرز التقدير الذي اعتدت أن أحرزه على اعتبار أنه كان من الشائع عني إنني طالبة متفوقة ولابد أن أكون من الأوائل إن لم أكن الأولى. والسبب في ذلك لم أكتشفه إلا بعد إعلان النتيجة وكان للأسف يكمن في أن إجاباتي على الأسئلة عبارة عن المختصر المفيد مما يتفق مع ما اعتدت عليه خلال دراستي في القسم العلمي الذي يعتمد على النظريات والمسائل الحسابية والبراهين المقتضبة والمعادلات الواضحة. فما كان علي كي أحصل على ترتيب على دفعتي التي كانت قليلة العدد آنذاك سوى أن أتعلم كيف أسهب في إجاباتي على الأسئلة كي تملأ كل الصفحات الخاصة بالإجابة حتى آخرها.

وهكذا بدأت أهتم بالإسهاب والإطناب والتطويل بعدما كنت أكتب كل شيء باختصار استجابة لمن رفعوا مقياس الكم على حساب مقياس الكيف. ومثلي مثل الكثيرين غيري ألفت حساب الطول متجاهلة أهمية العرض، ولم لا؟ طالما أن غالبية الناس حولي لا يكترثون إلا بالظاهر على حساب الباطن والجوهر، ومن ثم فطول الحياة أهم عندهم من عرضها، وكل شيء ما دام وفيرًا سيكون أفضل بغض النظر عن قيمته!

وليس غريبًا أن نظل خاضعين للسائد حولنا غير قادرين على مجرد إعادة التفكير فيه، ناهيك عن اتخاذ القرار بالخروج عن المألوف حتى لو كان غير صحيح. فقليلون فقط هم من يتخذون القرار معلنين أمام الجميع وبقوة: “ليه لأ؟!”، فلماذا إذن نقول “لا”؟ ومتى يجب أن نعلنها غير خائفين؟

إننا نظل نهاب كلمة “لا” ما دمنا لا نعرف لها أية فائدة، أو إذا كانت عواقبها ستلحق بنا الضرر أكثر مما ستعود به علينا من نفع. فأنا مثلًا لو كنت فضلت الاستمرار في إجابة الأسئلة بالمختصر المفيد دون إطناب وإسهاب لم أكن لأحصل على التقدير الذي كنت أرغب فيه، ولكنني وللأسف بعد أن حصلت عليه عامًا تلو الآخر وجدت نفسي في نهاية الأمر مضطرة لمزيد من اتباع السائد الذي بمقتضاه أصبح التقدير الذي حصلت عليه ليس له أية قيمة.

وهكذا تظل التنازلات لقبول الشكل وتجاهل المضمون تدعونا مرة تلو الأخرى إلى أن نجد أنفسنا في نهاية الأمر قد فقدنا ما نملكه نحن من جوهر مكتفين بما أصبح عليه شكلنا الظاهري الذي لم يعد به أي اختلاف أو سمة مميزة له عن غيره من الأشكال. فإذا بالجميع قد تم قولبتهم في قوالب جامدة بلا روح وكأنه قد تم استنساخ البشر بطريقة منظمة ومحكمة.

وإذا كانت هناك فائدة مرجوة من ذلك الاستنساخ فإنها ستعود فقط على من يريد تسيير الجموع بلا سابق تفكير منهم مما قد يُفضي بهم إلى المعارضة والاختلاف، وبالتالي يظل غالبية الناس مُسيرين وكأنهم لا يملكون القدرة على الاختيار، أو كأنه لا يوجد أي اختيار من الأساس. ولكن الإنسان إذا فقد القدرة على التفكير ثم لم تعد لديه القدرة على الاختيار فإنه سيألف ذلك إلى أن يفقد أهم ما تتميز به آدميته عن سائر المخلوقات والذي به يكون لحياته معنى يستحق أن يعيش من أجله.

ومن أجل ذلك المعنى لابد ألا نتنازل عن ملكة التفكير وعن قدرتنا على الاختيار ورغبتنا المستمرة فيه، وأن نحاول الإقبال على الحياة كي نحياها بالعرض ولا نكتفي بأن نحياها بالطول مدركين أننا مهما طالت بنا الحياة دون أن نحياها على النحو الذي نريده بعد تفكير واع فلن نجني منها أية ثمار ذات عبق يدوم وتقر بها الأعين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى