ثقافة وفنون

ضراوة الغربة..ووجع السؤال: قراءة في ديوان(أرتّب الفوضى) للشاعر الهادي العثماني*

 
 كتب:محمد المحسن 
تمثّل تجربة الشاعر التونسي الهادي العثماني نقلة نوعية في صرح الشعر التونسي المعاصر،إذ تؤسس لحداثة شعرية متميزة عبر مجاميعه الشعرية التي نخص منها:
-دعي الحزن لي
-آخر الأغنيات على موانئ الرحيل
ويعتبر ديوان”أرتّب الفوضى” للهادي العثماني الصادر عن الدار التونسية للكتاب(2013) مرحلة جد متقدمة في نضج تجربته الشعرية وتبني خطاب الشمولية والإستمرارية في بعث الأسس الجديدة للشعرية المعاصرة على ركائز ودعامات قوية تمتح من تجدد المواقف لدى الشاعر وخلق بدائل جديدة لفهم العالم والإنسان.
نحت الشعر..في دروب الإغتراب:
لعلّ الإحساس بالإغتراب في زمن-ظللنا فيه الطريق إلى الحكمة-يشكّل أبلغ محفّز للأداء الكتابي،بإعتباره يمثّل انقلابا حادا في سياق الحياة الإنسانية وعلى كل المستويات،الزمان والمكان وأبعاد شخصية الإنسان وتداعيات تحولاتها على مستوى الأحداث التي مرّت وتمرّ به.كما أنّ-الإغتراب-يحرّض لدى الشاعر موجهات جديدة لمواقفه إزاء الوجود.مما يفضي به إلى اتخاذ أو تبني رؤى وتطلعات تتباين في مديات اندياحاتها الفلسفية.وذلك بنسب تأخذ بالإزدياد صوب العمق والبلاغة كلّما تتوغّل المواجع في ضراوتها وتزداد وعورة تضاريسها.غير أنّ درجة حساسية الشعور بالأسى تتباين من إنسان إلى آخر تبعا لمرجعياته المعرفية ومديات إنغماره في سبر أغوارها أفقيا وعموديا.وهذا ينسحب أيضا على مستوى الكتابة الشعرية.فكلما كان الشاعر يمتلك ثراء معرفيا معززا بتجربة شعرية،كلما تمكّن من إنتاج نصوص تداعب الذائقة الفنية للمتلقي وتدفع به إلى إعادة قراءتها لإكتشاف الفسح التي تمنحها إياه لمزيد من التأويل المفضي إلى إنتاج نصوص ما بعد القراءة.فكيف بنا والشاعر الهادي العثماني الذي انبجس من قرية شاعرة/حالمةبني خداش-ونهل من غيمهاالماطر،تمرّس على الكتابة الإبداعية على تخوم المواجع،وتعلّم بالتالي هضم الأسى الذي ينتاب الشعراء أثناء تحليقهم في الأقاصي،بمخيلة أضراسها المعرفة.”وهل يا ترى؟ عوسج الوقت أضناك حتى التمزّق/بين حدّ الصدى والمدى/في دروب الحيارى ترى،هاجر الوقت من زمن مطمئن إلى وجع مشبع بالظنون/متى…؟ قال لي..كيف كنت؟ وكيف تصير؟لماذا؟ وأين؟ وكيف يكون الذي لا يكون..؟(ص182/183)..”لعلي..أراها هناك..لعلي أطوف بظلي،أرى زهرة العمر تذوي حثيثا/وما من عزاء يفيد اغترابي/سوى جذوة الشعر نورا ونارا/ودرب ارتحال..ومصراع بوابة للتمني..(ص 71)
لا يخلو هذا المنجَز الإبداعي من بعد مجازي تتلاقح عبره دلالات النصوص الشعرية وتتوالد لتمحص الهم الشعري،والرؤية الغدية،في إرتقاء من الذاتي إلى الجمعي،ومن المحلي إلى العربي،وتتوالى الصور المجازية،والإستعارية،بأساليب يتعرى من خلالها عالم الشاعر الشعري،فيعرض الضيق النفسي،والواقع المر المكبّل بظلام الحاضر،والمدثر بنار الإنعتاق،ويصاعد الضيق والحرج بالنفس حتى تصرخ(أراني وحيدا وبي لوعة من هوى لا تزول/أرى خيل بابل-تغزو المدائن-يعلو الصهيل،لها حمحمات تطول،وركض أصيل،أغوص بظلي،وأجثو على ركبتي أصلي،أسافر وحدي على نبض قلبي،وأركب ظني،فأنأى بدربي..(ص 70)..”هم هاهنا قد بايعونا..رتّبوا أحوالنا..تاريخنا..وصفونا بالأعراب..أي وصمونا بالإرهاب..لما طاف طائفهم علينا..فأتّخذنا الذل رايات السلام..(ص 163/164)..”قم سريعا.. ! رمّم الشرف المهشّم في مرايا اليوم والأمس/وعلم أمّنا الأرض صريحا*كيف تتلو سورة الغضب المدمّر للغزاة (ص178)
لنركس،بهذا التوجّع،في تاريخ المشهد العربي المترجرج،ونسمع صداه لدى المسلم الأوّل:”متى نصر الله” ويجذبنا بعد الصور المجازية،والإستعارية وإدراكها،بما تخلقه من مفأجأة القارئ بإنعتاقها من عقال الوهم،وبجنوحها الموغل في الغرابة والتخييل،بما يشبه ما أسماه”إمبسون”بالنمط السادس من أنماط الغموض،حيث المخالفة قائمة بين وضع الصورة في النص،وبين وضعها في الذهن،لأنّها تتخطى توقيع علاقات محسوسة،ومعقولة،يعيها المتلقي،إلى البحث عن إيجاد علاقات يمثل اللاوعي مصدر تشكيلها الوحيد،تجوز من خلاله المرئي والمسموع والملموس،والمعقول إلى الحلمي والوجداني،حيث تبدل معاني الألفاظ غير معانيها،وتتلبس بالسياق،لتنبجس منها علاقات متعددة،ومختلفة نحو التناقض الذي يولّد الإنسجام..ومما راقني في هذا القلب وهذا الكشف قول الشاعر:”عزفت على وتر الردى أوجاعنا/فاليوم هم والليالي سواد/هذي العروبة خيمة مجتثّة/في أرضنا لم ترسها الأوتاد/والسيّد العربيّ،إما عاجز،أو ظالم،أو مخبر قوّاد..(ص130).
وفي أثناء هذا النشاط النصي والنموّ الشعوري تتخلّق اللغة الشعرية بتخصيص خصائص نصية علائقية من خلال حركة ذات أهمية قصوى في البناء الشعري،تتفاعل فيها العديد من الآليات والمؤثثات الشعرية تتغيأ إنتاج رؤية للمحيط والخارجي.وتتعمّد تفعيل الإنفعال في الآخر..
ما من شك إنّنا نواجه شاعرا ذا فطنة ودراية بالشعر.شاعر ناهضالمواجعولم يستسلم لوحدته.فقد حرّض القصيدة كي تكون رفيقة درب:”كل الذين أحبّهم فارقتهم..إلا القصيدة ما تزال ببابي/ عانقتها،وسجدت في محرابها/وحملتها ذكرى من الأحباب”
تلك هي فلسفته الداحضة للإغتراب والمواجع..”والجدير بالذكر أنّ معرفة المعجم الشعري للتجربة يساهم بوضوح في كشف عوالمها الداخلية،كما يسهم في تلمُّس معالم رؤياها ذلك أنّ اللغة مقرُّ كينونة الأشياء“(1)”،وأنّ الوجود يكتشف فقط من خلال اللغة،ويبدأ وجوده عند الإنسان لحظة كشف اللغة عنه كما يقول هيدجر(2):”ومقاربتنا لهذا المنجز الإبداعي تضع أيدينا على بعض الترددات ذات المغزى،والتي تسهم في رصد المحاور التي يدور عليها الخطاب“(3).والملاحظ أنّ المتن اللغوي للخطاب الذي بين أيدينا شأنه شأن الشعر الحديث عامة يغلب عليه مفردات الوجع والغربة والخواء والإحتراق والقحط والإستباحة والموت والإستبداد..”..وأنا الذي عرف الزمان مواجعي/وأنا الهشيم على ضفافه أحترق/أحتاج حزني،كي أغنّي لوعتي/أحتاج قافية يبوح بها الهوى/تسري،وتحملني على عجل/إلى عشق الضفاف الخضر خلف مواجعي،كي أنطلق..(ص210)وفي ذلك ما فيه من الدلالة على الإيغال في السوداوية،وحتى تكتمل الصورة بإستقراء مقنع يحسَن أن نقف على المتن اللغوي للعالم الآخر الذي يتمثل بمفردات من قبيل الجمال والصبح والورد والضّوء والحب والعشق والأزهار والشوق والغرام..”..وطرقت باب الشوق،باب العشق،باب الصدق،لم آت نميمه..وأظل أقرع للهوى باب القصيدة بالغنا..(ص73)وفي هذا الأمر هامش فسيح من الأمل ورسم خلاّق لمعالم المستقبل المشتهى..
وجليّ أنّ مفردات عالم الحب والخير والنماء والخصب لم تعد دالة على هذه المعاني في علاقاتها التركيبية هذه،على أنّهاوهي كذلكتدلّ على أنّ الشاعر مسكون بهذه المعاني التي تشكّل مفردات عالم مشتهى ومطموح إليه،مما يشي بأننا أمام رؤيا على ما توحي به من إستباحة بالهم اليومي وبالمنظومة القيمية تعي جيدا ما هي فيه فتشهد معترفة بالحرص الذي ندب نفسه للشهادة،وإدراك الذي يعي جيدا ما يشهد به،ويطمح إليه،فهذه الرؤيا على كونها مستباحة منهكة بهمومها اليومية والمصيرية ما تزال من الناحية الفكرية صلبة قادرة على رسم معالم المستقبل المشتهى،وهذا ما يمكن أن يشي به قول الشاعر:”..على هذه الأرض ما يستحق الحياة/على هذه الأرض أسباب شتى/لكي نبدأ عصر مجد مجيد/لعهد سعيد/ويكتب النصر حدّ الحناجر فوق الوريد/يترجم صدق بكل اللغات..(ص240).
ومما يشي بوعي رؤيا هذا الخطاب الشعري للعالم المشتهى المتخيّل عالم المستقبل قول الشاعر:”..إذا هبّ ريح بدرب الحياة/ووشّح تفاصيل رحلتك بالأماني/وأثّثها بالفرح والأغنيات/وشرّع من القلب شبّاكه للرّبيع/وعمّده عند طقوس الصلاة..(ص228).
بعد ما تقدّم يمكن القول إنّ الهادي العثماني كان عارفا بأهم ميزات قصيدة النثر،فبنية القصيدة الداخلية والخارجية تقوم على التنوّع في الإيقاع واللغة والسرد والشخوص.هي عالم من وحدة نقائضهدم وبناءوتنوّع في الصيغ الشكلية والإشراقية وعلى كل المستويات.وهي بالتالي إنجاز إبداعي يتسوّر محراب المعاناة والواقع المؤلم ويقدّم في ذات الآن حلما باشلاريا عبر صور وعلاقات شعرية وثنائيات وأضداد،وإيقاعات سردية وفنية تركس في الماضي وتعمّق الإحساس بالحاضر وتستشرف المستقبل.
و“أرتّب الفوضى”بهذه الصورة ينم عن دراية ومران كتابي من جهة،ومع فكرة الشعر من جهة أخرى،وليست فكرة الشعر سوى الأرق والسؤال،نحسهما في كل كلمة،في كل نبضة،في كل صورة،في كل قصيدة،فيوحدنا مع الشاعر قلق الصور وبلاغة الشعر بمنآى عن التقليد المفتعل المثير للشكوك،والذي درج عليه الطارئون..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى