كتاب وشعراء

ذاهبون ويبقى الأثر ….بقلم محمد محمود اسعد

من كتاب #سكر_وسط

يوم بعد آخر يرحل عنا أعزاء إلى غير رجعة، كنا بالأمس نأنس لوجودهم بيننا ونجزع لغيابهم، كانوا لنا كنزاً بشرياً يفرحوا لأفراحنا ويألموا لأحزاننا لكنهم فارقونا بدون رغبة منهم ومنا.
كم من عزيز علينا تركناه في قبره ورجعنا، بقي هناك وحيداً لا تُسامِره غير الوحشة ولا يُجالِسُه إلا الخير من ثلاث: ” من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له”.
تلك هي رحلة الحياة كل منا فيها مسافر، رحلة زمنية بدون توقف بين مهد ولحد، رحلة ليست أكثر من فسحة محدودية الزمن تمتد بين قوسين بينهما ولادة وموت، فلنحرص أن نصنع شيئاً نافعا ومفيدا فيها فإننا ملاقيه، حياة بدايتها معلومة ونهايتها محتومة لا يعلم توقيتها وميقاتها إلا مقدرها عز شأنه وجل في علاه لطفاُ بقلوبنا كي لا تتصدع ونفوسنا كي لا تجزع.
أليست أعمارنا جروح نازفة لا يمكن أبداً أن تلتئم؟
أليست أوقاتنا أنهار متدفقة ماؤها أيام وممكن أعوام لكن تيارها لا يعود للوراء؟
ألسنا نحن مجرد أيام كلما ذهب يوم ذهب بعضنا؟
نعم حياة المرء أي مرء عداد تنازلي تبدأ من صرخة الولادة ولا تتوقف إلا في لحظة حتمية واحدة لا رجعة فيها هي لحظة إطباق العينين وإعلان الوفاة، بين اللحظتين تقبع سجلات المرء بطولها وعرضها، بحلوها ومرها.
أيام قليلة يمضيها المتوفى في لحده عقبها يُفنى فيه كل ملموس، تتفتت أعضاؤه وتتحلل خلاياه، قلبه الذي أحب فيه وعاش يفنى، لسانه الذي ذكر فيه وشكر يفنى، سمعه الذي استمع فيه يتلاشى، نظره الذي شاهد فيه الكثير وأمعن يغشى، يداه مهما استقوى فيهما تفنى، رجلاه وما مشى بهما إلى خير أو شر تفنى، معدته وما امتلأت منه تفنى، حقاً يفنى كل شيء فيه،
زخم كبير من الأحداث والوقائع كان له فيها صولات وجولات كلها تذهب معه وتفنى، ويبقى بعده فقط ما عمل فُيواجه فيه ويُحاسب عليه إن كان خيراً فهو خير له ولأهله فيُشكر ويُذكر (اذكُروا مَحاسِنَ مَوتاكُم)، وإن كان شراً فيُنكر ويحاول الكثيرون تناسيه عملاً بحديث (لا تَسُبُّوا الأمْواتَ، فإنَّهُمْ قدْ أفْضَوْا إلى ما قَدَّمُوا)، وحديث (لا تَسُبُّوا أمْواتَنا، فتُؤْذوا به الأحْياءَ).
ليست العبرة بمن مضى وسبق ولكن العبرة بمن اتقى وصدق، هو ذهب ونحن ذاهبون، هو ذهب وإن لم يفعل شيئا فقد ندم ولن ينفعه الندم لأن فرصته فاتت، وتوقيت امتحانه انتهى، ولا يمكنه أبداً التعويض ولا التمديد، ونحن ذاهبون لكن ما زال لدينا فرصة، فأرواحنا ما زالت في أجسادنا وقلوبنا ما زالت تنبض في صدورنا، هل استفرغنا الوسع في عمل الأثر الجميل؟! هل جدّينا في دنيانا لنُكرم عليه في آخرتنا؟! أيهما أفضل أثراً إن تركنا خلفنا محرمات، ومناوشات، وخصومات، ومكائد، ودسائس، وقيل وقال، أم تركنا صلوات تشهد لنا، ودعوات تُسجل لنا، وأعمال خير، وصدقات جارية، وسيرة حسنة وعلم يُنتفع به؟!.
كلٌ يفنى مع صاحبه ويبقى الأثر الجميل من مخرجات قلب ذاكر ولسان شاكر وعلم غزير ويد سخية، وتربية صالحة.
في يوم ما، سينتهي بنا العمر كما انتهى بآبائنا وأجدادنا، ويٌنسى من كنا، لكن يبقى ما كتبناه في صحائفنا من قول وعمل وما قدمناه من أثر، فلنحرص أن يكون أثرُنا جميلا.
*

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى