رؤي ومقالات

محمد الخطيب يكتب :مفهوم “الدولة” بين التراث والحداثة

من قال إن هدف “كل” السوريين بناء “دولة”؟ ومن قرر أن مصطلح “دولة” يحمل المعنى ذاته لدى الجميع؟ إن مفهوم “الدولة” في اللغة العربية، وفي الذاكرة الجمعية للناس، يحمل معنيين متباينين. الأول، وهو المعنى التاريخي التقليدي، يشير إلى السلطة الحاكمة والمُلك بحد ذاته، أما الثاني، فهو مفهوم حديث نشأ في عصر “النهضة العربية” نتيجة ترجمة غير دقيقة للمفهوم الأوروبي الغربي للدولة الحديثة، والذي بدأ في التبلور بعد الثورة الفرنسية، حيث ظهرت المؤسسات الدستورية والقوانين والمجالس النيابية والحكومات وممثلين الشعب بكافة اشكاله التي تدير شؤون المجتمع وفق نماذج ليبرالية ديمقراطية أو اشتراكية ديمقراطية.

لكن هذا المفهوم الحديث للدولة لا جذور له في التراث العربي الإسلامي، وكلمة “دولة” لم تكن تعني في أي وقت من الأوقات هذا الكيان المؤسساتي الحديث. من يدرس التراث الإسلامي، بمجرد أن يسمع كلمة “دولة”، لن يخطر بباله أبداً تلك التصورات المستمدة من الفكر السياسي الأوروبي الحديث، لأن المفاهيم السياسية في الإسلام لم تُبْنَ على فكرة “المؤسسات”، بل على الولاء والطاعة والشرعية الدينية أو القبلية أو القوة العسكرية.

في المعاجم العربية، نجد أن كلمة “دولة” تحمل دلالتين سياسيتين رئيسيتين: الأولى تشير إلى الملك نفسه وحاشيته، والثانية تعني نطاق حكمه أو مملكته. بعبارة أخرى، الدولة ليست أكثر من الأرض التي سقطت تحت سيطرة قوة ما، وصارت في قبضتها. بمجرد أن يصل الحاكم إلى كرسيه، تكون الدولة قد قامت، ولا يتطلب الأمر شيئاً إضافياً سوى ما يقرره هذا الحاكم وحده. أي اذا وصل رجل مسلح الى شط طرطوس وهو ذراع الدولة التي يمثلها فقد قامت الدولة هناك ، وهذا هو جوهر المفهوم التقليدي للدولة كما كان متداولاً في العصور الإسلامية. ولهذا السبب، لم يكن هناك مفهوم واضح لمصطلحات مثل “سيادة القانون” أو “الدستور” أو “الفصل بين السلطات”، لأن هذه الأفكار ببساطة لم تكن جزءاً من التصور السياسي الإسلامي التقليدي.

 ما يساعد على فهم عبارات مثل “دولة الأمويين” أو “دولة العباسيين”، بل وحتى مصطلحات معاصرة مثل “دولة العلوية” التي بدأ البعض باستخدامها مؤخراً. فالدولة، بهذا المعنى، ليست أكثر من مساحة نفوذ حكمهم، يتمدد نفوذهم فيها بقدر قوتهم العسكرية والاقتصادية، وينحسر بقدر ضعفهم أو هزيمتهم. هذا الفهم يختلف تماماً عن التصور الحديث للدولة ككيان قانوني مستقل محكوم بمؤسسات وأنظمة تشريعية

الدولة الأموية خير دليل على هذا الفهم. فقد قامت الدولة الأموية عندما استولى معاوية  على الحكم بعد صراع سياسي وعسكري طويل انتهى بمقتل الخليفة علي بن أبي طالب، ثم تنازل ابنه الحسن عن الخلافة. بمجرد أن استتب الأمر لمعاوية، أصبحت له “دولة”، ولم تكن هذه الدولة تقوم على مؤسسات أو نظم دستورية، بل على حكم الرجل الواحد المدعوم بقبيلته وجيشه، وهو ما استمر طوال فترة الحكم الأموي. فعندما مات معاوية، ورّث ابنه يزيد الحكم، ومعه “الدولة”، تماماً كما يورث الملك ممتلكاته.

أما الأفكار المتعلقة بالدستور والتشريعات الحديثة، فهي مستجدات لم تكن مقبولة حتى لدى ملوك أوروبا الشرقية والقياصرة الروس قبل أن يُجبروا على تبنيها تفادياً للثورات ضدهم. لم يكن لأي إمبراطور أو قيصر أو خليفة إسلامي أن يقبل بفكرة “الدستور”، إذ كان مصدر شرعيته يستند إلى “العناية الإلهية” أو إلى “القرآن”، وليس إلى وثيقة مكتوبة تحدد صلاحياته وتقيّد سلطته. فكيف يضع دستور وهو دستوره القرآن؟

هذا يفسر أيضاً لماذا لم يكن هناك في التاريخ الإسلامي مفهوم محدد لـ”الشعب” كما يُفهم اليوم، فالرعية لم تكن شريكاً في الحكم، ولم تكن هناك فكرة عن “الإرادة الشعبية” التي يجب أن تُحترم. الحكم كان يقوم على القوة، سواء كانت قوة السيف أو الشرعية الدينية أو العصبية القبلية، ولم يكن هناك أي التزام سياسي حقيقي تجاه “مواطنة” أو “حقوق مدنية” كما في الدولة الحديثة. لهذا السبب، لم يكن الخليفة أو السلطان بحاجة إلى دستور يحدد صلاحياته أو يلزمه بشيء معين، فهو الحاكم بأمر الله، أو على الأقل بأمر الواقع.

لذلك، عندما يتحدث حاكم إسلامي عن الدستور وبناء دولة حديثة، فهو إما يخدع الناس بكلام منمق، أو أن فهمه للدين قد تأثر جداً بالمفاهيم الغربية الحديثة إلى حد أنه فقد الصلة بتقاليد الحكم الإسلامي الأصيلة. في النهاية، مفهوم الدولة الذي يروج له البعض اليوم، ويعتبرونه الهدف النهائي لأي مجتمع، هو في الواقع مفهوم حديث، غريب عن التراث العربي والإسلامي، ومبني على تصور مختلف تمامًا للحكم والسلطة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى