الشغوف بالنساء….قصة قصيرة بقلم محمد الصباغ

قرأ ليّ شيئاً مما أكتب مصادفة ، وآتى إلى الدار الصحفية التي كنت أعمل بها ، وسأل عني أكثر من مرة ، حتى التقيني ، حين كان منتظراً حضوري في معادي الصباحي للحضور وقد انتظر كثيراً أن أأتي ولم يكل ولم ينصرف ، حتى بعد أن تجاوزت في يومها ، كثيراً ميعاد حضوري ، كان مصراً بشكل غريب ، على اللقاء .
وبقي منتظراً كثيراً دون زهاق أو ملل أو يأس !!.
أخبرني موظف الاستقبال (وأشار عليه ) ، بأن هذا الشخص ينتظرك منذ وقتل طويل ، ولم يشأ أن ينصرف ، حتى بعدما أخبرته ، بأنك وقد تأخرت عن ميعاد حضورك الصباحي كثيراً ، فإنك لن تأتي . ولكنه شاء أن ينتظر ، وقال : “مادمت قد أتيت فسوف أنتظر ” .
كان شاباً في منتصف الثلاثين من عمره ، وسيماً متأنق في ملبسه بلا تكلف ، وقد بدأ حديثه في تؤدة ، وبعد أن عرفني بنفسه ، وأنه قد أصر على لقائي بأن أتى للمكان أكثر من مرة ، في مواعيدي الصباحية والمسائية ، وأن أمن المؤسسة كان يصرفه بحجج متنوعة ، ثم قال : ” أنه أتى لأمر يخصني ، لا لحاجة عندي ” .
وبعد أن فرغ قلت له متبسماً : – خيراً .
فقال على الفور وبثقة :
— “عندي نصيحة لك ، إذا أردت أن تستمر كاتباً للقصة القصيرة ” .
فقلت له مرة أخرى حائراً هذه المرة : – خيراً .
قال كمعلم خبر الحياة وفن الحياة بما يتجاوز سنه الأكبر من سني :
— ” ابحث عن الأشخاص الشغوفين بمثل الأشياء التي أنت شغوف بها ، هذه هى النصيحة الأهم لك في الحياة ، وسوف تعرف قيمة هذه النصيحة في يوم من الأيام ” .
توقف عن الكلام ، وأنا أستزيده بعيني ، أن يسترسل ، ولكنه كما لو كان قد أراد أن يتوقف ، ثم ينصرف .
ولما شعرت بأنه سينصرف دون أن يزيدني كلاماً عن نفسه ولماذا آتى ، ولماذا أراد أن يوجه ليّ النصيحة ، ثم من هو أصلا ، قلت له :
– ” تعال أشرب القهوة معايا في مكتبي” .
كنت قد أدركت للتو ، حيلته ، في التظاهر ، بالإنصراف ، لأستبقيه وأدعوه لحديث يليق به ، لا مجرد أن أسمع منه كلاماً على الواقف ، فى مدخل المكان ، حيث نلتقي الضيوف العابرين ، الذين لا نريد أن نستبقيهم ، وأدركت لحظتها مدى حرفيته ، ومهارته في سلوكه الاجتماعي ، ربما كان هذا رقي تربوي ، وربما كان رقي مصنوع ، بمهارة الخبرة .
أجلسته في المقعد المقابل لمكتبي ، كصديق أو قريب ، وليس كضيف عابر ، ثم نظرت له بتأمل وقلت له :
– “حكايتك أيه ؟! ، وعايز تقولي أيه ؟! . ” فقال وكأني أعددت له المسرح وأعطيته الميكرفون :
— ” ما قيمة أن تكون كاتباً متميزاً في القصة القصيرة جداً ، ولا تجد من لا يكون شغوفاً بما تكتب ؛ يقرأه ويفهمه ويعيشه ويعرف قيمته ، وقيمة ما كتبته ؛ وذلك بما أضفت إليه في حياته بعد قراءته الواعية لما كتبت ” .
” لقد قرأت لك مجموعة قصص قصيرة جداً في “المجلة” ، وقد حفظت نصوصها كلها رغم تجريدها للحياة ، واستبطانها لمعاني خارج إطار الكلمات وتجميعاتها التراكبية اللغوية ” .
– “هل أنت متخصص في النقد الأدبي ؟! ، هل تكتب القصة ؟! . أنا لست متفرغاً لكتابة القصة القصيرة ، هى دفقات شعورية ، أصيغها في قالب القصة القصيرة جداً أحيانا ، وأحياناً أنطلق ، حيث تتوقف القصة ” .
— ” لقد قرأت لك قصة “انتظار ” ، ضمن آخر نشر لك ، ووجدتك لم تنشر شيئاً بعدها ، فتعجبت أن تتوقف في البداية !! .
لقد حفظت في قلبي النص الذي حفرته أنت في عقلي ، حين كتبت :
( — “هب مثلا أن قطاراً جديداً يسير على قضبان ممتدة دون عوائق ويقوده سائق بصحة جيدة ، هل تضمن أن يصل إلى محطته مادام سائراً ؟! .
– نعم لما لا ؟! .
— فلماذا أقف أنا ها هنا ؟! ” .)
لقد وجدت حياتي كلها في هذه القصة ، في هذه السطور !! .
وصممت على أن أرآك ولو من بعيد ، ولكني عرفت من موظف الاستعلامات ، أنك لم ترد أبداً ، من قصدك في اللقاء .
ابتسمت إليه بود ، وقلت له : ” ألهذا حرصت على أن تلقاني ، وقد أتيت أكثر من مرة ، وفي كل مرة كانوا يصرفونك مخادعين ، لأنهم كانوا يظنون أنك تبحث عن عمل ، وأنك تقصدني في ذلك ، وأنك سوف تزيد همومي هماً ، لو صرفتك ، دون تلبية رجاءك ورغبتك” .
قال : “في الأول قرأت لك صدفة قصة من قصصك القصيرة جداً ، فأعجبني هذا الشكل التجريدي والتلغرافي من الكتابة ، وقد أحببت ما كتبت فعلا ، شكلا وموضوعاً ، وفهمته ، وقد أيقنت بأنك تحتاج مني إلى هذه النصيحة الإنسانية ؛ ربما الآن وربما بعد الآن .
قلت له : “أشكرك على النصيحة ، والمشقة في توصيلها إليّ ، ولكني كما قلت لك ، لست متفرغاً لكتابة القصة القصيرة ” .
— “ستجدها نصيحة ذات قيمة لو واصلت كتاباتك للقصة القصيرة ، وهى نصيحة عن خبرة وتجربة ، وهى تفيد الإنسان عموماً في الحياة ، ولكنها ذات قيمة غالية للمتخصصين والمبدعين عموماً ” .
نظرت إليه متفحصاً ، وقلت له : ماذا تعمل ؟! .
— “لا أعمل عملاً محدداً” .
– ومما تتعيش ؟ .
— ” أنا احترفت صيد النساء (النسوان) منذ سنوات ، وتستطيع أن تعتبر هذا عملي الأساسي ، ومنه أتعيش ” .
استغربت بشدة مما قاله ، وقلت له : ما معنى أنك تحترف ” صيد النساء” ؛ هل أنت قواد ؟! .
— “لست قواداً ، ولكن النساء يستطعن أن يحصلن على حاجتهن في الحياة بسهولة مني ، كأفضل ما يؤدي المتعة ذكر لأنثاه ، ولكن بالنسبة ليّ أي “مرة ” تستطيع أن تدفع ليّ وتنفق على حياتي معها ” .
– “بأي معنى لست قواداً ؟! ” .
— “لست قواداً ، وأقول لك من خبرتي في الحياة ؛ فإن القواد لا يعمل أبداً لصالح الأدنى منه ، هو يعمل لصالح الأعلى ، والأكثر سخاءً ، والأكثر فهماً ، ولكنه لا يريد أن يتعب في قنص الأنثى الجميلة المشتهاة له . ولهذا فمهنة القوادة شائعة رائجة ، وهى ليست بدرجة البشاعة التي في مهن أخرى من التى يمارسها أصحاب الوجاهة ” .
– “من أجل العيش ، هل طلب منك أحداً أن تعرفه على إحدى النساء التي تعرفهن ؟! ” .
— “لم يحدث ، وإن حدث فلن أفعل ” .
-“إذاً تصيد أكثر من أمرأة في نفس الوقت ، لتضمن أن لا تصبح عاطلاً في وقت ما وتجوع ؟! ” .
— “لا أنحرف كثيراً في عملي ، فقط أحياناً ما أصطاد ” أجنبيات” بشرط أن يكن شابات وجميلات ، ومرة واحدة ادعيت فيها أني غير مصري ، واصطدت فيها ممثلة مشهورة ، وعشت معها فترة طويلة ؛ قبل أن تكشفني بالصدفة ، وتعرف أني مصري” .
– “هل تفصل ليّ هذه القصة ، فهذه مفاجأة ليّ ، من هى الممثلة المشهورة ؟! ” .
— “للأسف لست بائع قصص ، ولن أقول لك مزيد ، حتى لو لم تصدقني ، في هذه الحكاية عن الممثلة الجميلة المشهورة : لقد أوقعتها بسهولة ولم أخدعها ، كما قالت عندما صدمتها المفاجأة . فقط أنا استغليت هذه المقدرة فيّ ، ومارست عملي فأنا أبحث عن أي راغبة لديها ثروة ، أو فراغ وأمضي معها وقتاً يستمر ويطول بقدر ما تستطيع هى أن تصرف ؛ ربما تطول المدة ، يوماً أو يومين أو شهر أو شهوراً “.
” المهم أنني لم أرافق أبداً متزوجة ، وكذلك لم أتزوج بأي واحدة مما عاشرتهن” .
– “وهل أنت راض عن نفسك وأنت ضائع هكذا ، وتعيش على الصدفة ، لا مؤاخذة ؛ أنت رجل مومس !! ” .
لم يغضب من جملتي ولا كلماتي الأخيرة ، وعالج أثرها سريعاً بيني وبينه وقال :
— “أنت ربما تعجلت قليلاً فيما قلت وفي أسئلتك هذه ، وربما لو صبرت قليلا ، لعرفت أنني ربما فنان في حياتي وفي عملي هذا الذي أتعيش منه ، فأنا لا أنهب رفيقتي ، ولا أبدد مالها ولا صحتها ولا عمرها ، واعطيها بأكثر كثيراً مما آخذ منها ، أنا أعطيها كل الحياة وأجمل ما في الحياة . ولهذا فأنا راضي جداً ، وأيضاً فإني مستمتع بحياتي . ولم يحدث منذ أول مرة اصطادتني إمرأة (مرة) أني قد جعت تماماً ، فقد عرفت مهارات الصيد ، وأصبحت محترفاً ومتعيشاً ، ولم يحدث أن نفدت شبكتي ولو مرة واحدة ، فأنا أيضا أطور نفسي وأنمي إطلاعي وثقافتي وأجيد الآن أكثر من لغة ” .
– “هل تحترم نفسك ؟! ” .
–” أنا ” تاجر سعادة ” فقط ولست متوسعاً في هذه التجارة ، ورزقي يوم بيوم . سوف أقول لك نصيحة أخرى ، لأني لن أرآك ثانية ، وسوف أحبطك : لو وجدت اسمك على أي قصة قصيرة ، بعد الآن ، سوف أتردد كثيراً في قراءتها ، وأقول لك ، لا تأكل نفسك وأثري نفسك وعالم قصصك ؛ بأن تتورط في الحياة وأن تعيشها بلا تأفف وبلا قفاز ، وتوقع أن البشر قد يفعلون أي شيء في الواقع ، فلا تقيد قصصك واغنيها بالتفاصيل الحية ، البشر في الواقع يفعلون كل شيء ؛ حتى ولو كانوا لا يحتاجون فعلياً أن يفعلوه .
هى تفاعلات الأفعال ، مثل التفاعل الكيميائي ، ولكن أوسع كثيراً من التفاعل الكيميائي ، لأنه هو التفاعل الإنساني التأثيري ، المصرف للحياة والمشبك بين البشر ” .
كنت فعلاً قد بدأت أستفيد مما يقول ، بل كان قد أبهرني ببعض ما قال ، وقلت له ، لأشعره بأني متجاوب مع ما يقول ، ولكن طبيعة الصحفي تغلبني في بعض الأسئلة ، فأنا أريد أن أعرف التفاصيل ، وأعرف كيف أصبح على هذا النمط من فهم الحياة وإدارتها والتعامل مع شخوصها . سألته :
– “هل تريد فنجاناً آخر من القهوة ؟! ” .
–” لا .. لقد فرغت مما عندي لك ، وأشكرك على الوقت ، وأشكر فراستي في الحياة ، فما خذلتني وهى حقيقة صنارتي ” .
– “لدي متسع من الوقت الآن لأسمع منك المزيد عنك ، لا تقلق بشأن الوقت ” .
— ” أتيت لأعطيك نصيحة واحدة ، وفي خلال فنجان قهوة واحد ؛ أعطيتك مضطراً النصيحة الثانية ، أنت مسكين حقيقي ، ولن أستطيع أن أواليك بالنصائح ” ، ثم قال ضاحكاً :
– ” سوف تفلسني . الحياة ليست جادة قاطعة ولا حادة ممزقة ، هى حلبة للتعايش ، كما هى حلبة للملاكمة والصراع ، ولكي تلاكم بكفاءة ، يلزمك ملقن قوي ومدرب ومدلك ، يفكك العضل ، وامرأة ناعمة توظف نفسها لإمتاعك أنت فقط ، حتى ولو أنفقت عليها مال الدنيا ” .
تشككت مرة أخرى فيه ، وفي مغزاه ونوآياه من جملته الأخيرة ، فقلت له بغشومية خرقاء :
– ” رجعت في كلامك لطبيعة وشكل كلام القوادين ؟! ” .
فقال بغضب هذه المرة : ” لا لست قواداً ولا أجير ، أنا أمارس عملاً حراً ، وأنا لا أبيع إلا ما أملك وما في يدي ” .
ونظر إلي وهو يهم بأن يقف ويودعني، وقال :
” عندما قرأت قصصك السطرية ، عرفت أنك صاحب موهبة ، وعرفت أنك مازلت صغير السن ، وقد حرصت على أن آتي إليك ، وأقدم نفسي إليك ، مقدماً نصيحة ستعرف قيمتها في يوم من الأيام ” .
عندما وجدت غضبه يتصاعد ، وقد عزم فعلا على الرحيل ، فقلت له مبارزاً : هذا دوري في تقديم نصيحة مجانية لك يا حضرة المحترف الخبير :
– “لا تجعل الغضب يفسد عليك أم أتيت له ، ولا تخرج من هنا خاسراً ، بدون أي شيء ، لقد صرفت نفسك بالغضب ، دون أن تحصل على مبتغاك ، هل تحتاج نقوداً ؟! ” .
عندها استرد ثقته بنفسه ورمى الإهانة بعيداً . قال :
— ” أتيت لأعطي ؛ لا لآخذ ” .
فاستغليت فرصة هدوءه وقلت له : هل تعرفني بنفسك أكثر ؟! .
— ” لماذا ؟! ، لقد كنت صريحاً معك ، وقلت لك دون أن تسأل ما تحتاج لإستيضاحه ، وما يجب عليك أن تعرفه عن من قدم إليك دون سابق معرفة ” .
– “لقد كسبت اليوم صديقاً جديداً في حياتي ، يمارس الفن في الحياة بطريقته ” .. قلت له هذا وأنا أضحك من قلبي .
— ” لا أريد أن أبقى أكثر من هذا ” .
فقلت له راجياً : نحن متقاربان في العمر ، وأنت لست كبيراً في السن ، لنكن أصدقاء ؛ هل تزورني مرة أخرى ؛ هل من الممكن أن تعتبرني صديق ؟! .
— “ربما .. دع ذلك للصدفة ، ولأثر تفاعلات الحياة لديّ ، ربما تجدني منتظرك مرة أخرى ، وربما لن ترآني مرة أخرى في حياتك ” .
عندها هم واقفاً ، مؤذناً بأن اللقاء قد انتهى ، ووقفت أنا الآخر لكي أودعه إلى الباب ، وأنا أعرف أني لن آرآه مرة أخرى ، فقد خيبت رجائه على نحو ما ، لم أدرك منذ ذلك الوقت ، وحتى الآن ورغم مرور أكثر من ثلاثين عاماً على هذا اللقاء ، ما هو تحديداً ما جعله يجفل مني ، ويخيب رجاؤه عندي . وأصبح ظني لحظتها أنه لو رأيته مرة أخرى فسوف يمتنع عن استيقافي والحديث معي ، وفتح عالمه الثري ليّ ، ليكون منبع من منابع قصصي ، المنطلق بالقصة والحواديت والغوص في باطن شخصيات القصة .
بعد سنوات طوال من امتناعه عني ، بعد اللقاء الوحيد ، فقد شاهدت بالصدفة في أحد البرامج الحوارية التلفزيونية ، تلك الممثلة المشهورة التي كان قد رافقها “الشغوف” بإمتاع النساء الطالبات للحياة والمتعة في الحياة ، وكان هو يعتبر فهمه لهذه الحاجة عند النساء جميعاً بدرجة أو أخرى ، أن في هذا الفهم ، هو فنه وأكل عيشه ومهنته ، أدهشتني الممثلة المشهورة التي لم يكن قد ذكر ليّ اسمها ، وهى تحكي قصتها معه ، وتروي بصدق ما فعله معها ، وما أدهشني أكثر ، أنها كانت تروي بنشوة وسعادة ، وكانت تضحك .
ولحظتها تذكرته تماماً وتيقنت من صدقه . وبعدها بحثت عن الورق الذي دونت فيه قصته التي روآها ليّ ، حين زارني ليقدم ليّ النصيحة التي تجعلني قاصاً متميزاً ؛ بأن أكون شغوفاً بنفس النمط الذي يشبهني في شغفي بذات الأشياء التي أشغف بها في الحياة ، وطالعت ما دونت عنه وعن اللقاء ؛ وقد أدهشني في هذه المرة من المطالعة ؛ كما أدهشني في أول مرة وكانت هى لقاؤنا الوحيد ، أدهشني في المرتين كم كان صادقاً ، صادقاً مع نفسه وصادقاً في الحياة ؛ وقد ندمت فعلاً على عدم استمرار معرفتنا !! .