كتاب وشعراء

الجرس النوني في نونيّة الحب: دراسة في التكرار الصوتي والدلالة الشعورية……بقلم ربا رباعي

المقدّمة:

في قصيدة “نونيّة الحب”، ينهض حرف النون بدورٍ جوهري في بناء الإيقاع الشعري، وصياغة النبرة العاطفية المضمّخة بالحزن والحنين. لا يأتي تكرار النون عبثاً، بل يُسهم في خلق جرس صوتي داخلي يشيع في النصّ أصداءً وجدانيّة تُعمّق التجربة الشعريّة وتمنحها بُعداً داخلياً متوتراً وعاطفياً.

🔹 التكرار الصوتي: الجرس النوني

يُلاحَظ في النص كثافة تكرار حرف النون، خصوصًا في مواقع ختامية للعبارات والمقاطع، ما يُضفي على القصيدة طابعًا موسيقيًا حزينًا، ويعكس توتّر الذات العاشقة وانكساراتها. مثلًا:

> “فإنِّي الليلُ يكسوني
وإنِّي أخشى منِّي.”

هنا، يتكرّر حرف النون أربع مرّات في بيتين فقط، مما يرسّخ الإيقاع الداخلي المتموّج بين الخوف والاحتواء. حرف النون في هذا الموضع يحمل نغمةً حنونة، ولكنها مُثقلة بالقلق.

🔹 البنية الصوتية وأثر “النون”

صفات حرف النون:

مُجهر (مجهور): يُنطق بصوت ظاهر غير مهموس.

أنفي (خنيني): يخرج من الأنف، فيمنحه طابعًا غنائيًّا داخليًا.

رخو: قابل للمدّ النسبي.

هذه الصفات تجعل صوت النون مثاليًا لتعبيرٍ شعريّ محمّل بالانكسار، الوجد، والحنين. يظهر ذلك في:

> “إنَّنِي مازِلتُ أشكو من هواكِ
لكي ينوحُ النايُ
يا حبَّابتي، فإلَيَّ غنِّي.”

نلاحظ هنا امتزاج النون مع مفردات الشكوى والحنين (أشكو، الناي، غنِّي)، وكأنّها تمتدّ وتتكرّر لتعكس أنفاس المتكلّم وهو يبوح بعاطفته الخانقة.

التكرار النوني والدلالة العاطفية

التكرار في هذه القصيدة ليس تكرارًا اعتباطيًا أو زخرفيًا، بل هو تكرار دلالي يوظّف الحرف كرمزٍ صوتيّ وعاطفيّ. يمكن تمييز ذلك في:

> “مادمتِ تسقيني هواكِ
فإنَّني يزدادُ ظنِّي
يا شموعَ الشوقِ أنِّي…”

هنا، تكرار النون يعمّق الإصرار العاطفي ويؤكّد على الهوية الشعورية: “أنِّي”، “ظنِّي”، “يسقيني”، “تسقيني”… إلخ. كأن الشاعر يؤسّس حضور الذات العاشقة ويُكرّس هويتها داخل عالم من التردّد والانتظار.

🔹 الحوار الداخلي والتكرار

تُوظَّف النون أيضًا في صياغة نوع من الحوار الداخلي الذي يتكرّر فيه الضمير “أنّي”، فيغدو الشاعر وكأنّه يناجي نفسه:

> “وإنِّي أخشى منِّي.”
“إنِّي صنعتُكِ من هواي
فعليَّ حنِّي

في هذه المقاطع، يتكرّر الحرف في تركيبٍ نفسيّ يكشف الازدواجيّة الشعورية والتوتّر بين العاشق وذاته، حيث يصبح “منِّي” مصدرًا للخوف، و”عليَّ” مصدرًا للرجاء، ضمن بُنية صوتية تتماوج ما بين القلق والتمنّي.

المقارنة الأدبية: تكرار النون في سياقات مشابهة

في الشعر العربي القديم والمعاصر، وُظِّف تكرار النون لأغراض وجدانية، ومن الأمثلة الشهيرة:

من نونية ابن زيدون:

> “أضحى التنائي بديلاً من تدانينا
وناب عن طيب لقيانا تجافينا”

يتكرّر حرف النون على نحو مماثل، ليعكس ألم الفقد والفراق. هذا يدلّ على أن استخدام النون في نونيّة الحب يندرج ضمن تقليد شعري راسخ، لكنه يحمل نغمة معاصرة وشخصية أكثر.

مصادر داعمة:

ابن جني – الخصائص: يوضح أهمية الجرس الصوتي في بنية الكلمة.

عبد القاهر الجرجاني – دلائل الإعجاز: يعرض أثر التناسق الصوتي في عمق الدلالة البلاغية.

سعيد بنكراد – السيميائيات وتحليل الخطاب: أهمية الحرف في تشكيل الدلالة.

كتاب: الموسيقى الشعرية – د. إبراهيم أنيس: تحليل لأثر الحروف المجهورة والرخوة في الموسيقى الداخلية للقصيدة.

خاتمة:

أعاد الشاعر في نونيّة الحب تشكيل الحرف الشعري بوصفه نغمة لا تنفصل عن الموقف الشعوري. فحرف النون لم يكن عنصرًا صوتيًا فحسب، بل رمزًا دالًا على الحنين، والانكسار، والحوار الذاتي. هذا التكرار خلق نسيجًا صوتيًا مشحونًا بالعاطفة، وجعل القصيدة أشبه بمرآة تعكس أنين القلب وحوار الذات مع ظلّها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى