محمد المحسن يكتب :أنس الشريف الصحفي الشجاع الذي صاغ ثنائية الوطن..والكلمة ..
العبرات كبيرة وحارة تنحدر على خدودنا النحاسية..العبرات كبيرة وحارة تنحدر إلى قلوبنا"( ناظم حكمت)

*تصدير:لأن هناك أبطال،ولأنهم في حياتنا،ولأنهم يبقون حتى حين يغادرون عالمنا،يمكن أن نطمئن.ليس شعارا هذا،ولا تفاؤلا ساذجا،فإن معتنقي الكلمة الجاسرة المخترقة سجوف الصمت والخيانة..قدامى وحديثين،استطاعوا أن يمنحوني شعورا استثنائيا في كثير من الأوقات التي كان يمكن أن يسودها اليأس والظلام،شعور هو مزيج من البهجة،والهدوء،واللامبالاة.
اقتادتك فلسطين من يد روحك إلى فردوس الطمأنينة،بل ربما إلى النقيض.
ولكن..الأبطال العظام يولدون مصادفة في الزّمن الخطإ،ويرحلون كومضة في الفجر،كنقطة دم،ثم يومضون في الليل كشهاب على عتبات البحر..
الشهيد أنس الشريف:أوقعتك القافلة سهوا عنك،سهوا عنّا ومضيت قُبيل انتهاء ملحمة التحرير دون وداع،فحين إكتفى معظم الصحفيين،والكتاب والمتابعين ممن لامس صوتك الجسور،وشجاعتك المتوهجة شغاف قلوبهم برثائك،والترحّم على رحيلك بدموع حارقة..
الراحل الفذ:منذ رحيلك وأنا أحاول مجاهدا تطويع اللغة،ووضعها في سياقها الموازي للصدمة..للحدث الجلل..إننّي مواجه بهذا الإستعصاء،بهذا الشلل الداخلي لقول الكلمات الموازية،أو المقاربة لرحيل القمر والدخول في المحاق..
ولكن الدّمع ينهمر نزيفا كلّما انبجس دمع من شقوق الركام..
ماذا تعني كلمات أو مفردات:منكوب أو مفجوع أو مدمّى أو منكسر؟
لا شيء..سوى الفراغ الذي كنت تملأه فيما مضى.يتسع بك ويضاء بالبهاء الإنساني والغنى الروحي الحزين جراء فساد العالم وخرابه..
الرساءل الفذة والصرخات الإحتجاجية التي تخترق في عنفوانها سجوف الصّمت والخيانة،وتواجه بشموخ الإنحدار الرعوي وصلف حفاة الضمير..
الآن بعد رحيلك-القَدَري-أعيد النظر في مفاهيم كثيرة،ربما كانت بالأمس قناعات راسخة،الآن يبدو المشهد الإعلامي كأنّه مهزلة وجودية مفرغة من أي معنى سوى الألم والدموع..
أيّها الشهيد المسافر عبر الغيوم الماطرة:لقد احتمى إسمك بالوجدان الفلسطيني حزنا صامتا عميقا سنظلّ نتوارثه جيلا بعد جيل..ونحلم بولادة إعلاميين أفذاذ في حجم شموخك..
هذا الحلم ما يفتأ يعاود الظهور في كلّ مرّة تصبح فيه الكرامة العربية مجرّد ذكرى،وتصبح الشعوب العربية مثل الهوام لا أمل ولا فرح ولا نسمة تهبّ من تحت الأنقاض..وطوبى للحزانى لأنّهم عند الله يتعزّون.
أنس :الزّمان الغض،المضاء بشموس النصر والتحدي.الزمان المفعم بإشراقات التحرير،ما قبل إدراك الخديعة،بغتة الصدمة ولسعة الجلاد..
الكون الحزين يرثيك.فرحة هي النوارس بمغادرتك عالم البشر إلى الماوراء حيث نهر الأبدية ودموع بني البشر أجمعين..
أنت الآن في رحاب الله بمنأى عن عالم الغبار والقتلة وشذّاذ الآفاق،والتردّي إلى مسوخية ما قبل الحيوان.
والسؤال:
هل كان الحمام الفلسطيني يعبّر بهديله عن رغبته في اختطافك إلى الفضاءات النقية لتكون واحدا من-قبيلته-بعيدا عن الأرض الموبوءة بالإنسان الذي تحوّل إلى وحش ينتشي بنهش الجثث،قاتل للحمام والبشر،معيدا سيرة أجداده القدامى منذ قابيل وهابيل حتى الآن؟ !
نائم هناك على التخوم الأبدية،وروحك تعلو في الضياء الأثيري،طائرا أو سمكة أو سحابة أو لحنا في موسيقى.لقد غادرت المهزلة الكونية للعبور البشري فوق سطح الأرض.
في الزمان الحُلمي،كما في رؤيا سريالية،سأحملك على محفة من الريحان،بعد تطهيرك بمياه الوديان،من مصبات الأنهار والمنحدرات الصخرية بإتجاه البحر..سيسألني العابرون :إلى أين؟
في السماء نجمة أهتدي بها.أعرفها.تشير دوما إلى القدس.أنت أشرت إليها ذات غسق وهي الآن فوق-مقبرة “غزاوية”-تضيئ القبور بلمعانها المميز عن بقية الكواكب.وهي تشير كذلك إلى المرقد والمغيب فوق أفق البحر في أواخر المساءات.أحملك نحوها لتغطيك وتحميك بنورها الأسطوري لتدخل في ذرّاتها وخلودها الضوئي..
قبل هذا الإحتفال الأخير سأطوف بك حول-اغزة-التي أحببتها،معقل الصابرين والصامدين،حيث يرثيك أهلك و-مريدوك-بدمع حارق يحزّ شغاف القلب..
يسألني العابرون أو أسأل نفسي:هل محاولة إستعادة نبض الحياة الماضية يخفّف من وطأة صدمة الموت؟..لا أعرف شيئا..
حين يأتي المساء الرّباني سنلتئم تحت خيمة عربية مفعمة بعطر الشعر.نشعل النيران في فجوات الصخور اتقاء للرّيح،ونبدأ الإحتفال في لحظة بزوغ القمر فوق فلسطين الشامخة..
أما أنتم-يا أيها الكتاب والصحفيون-:إذا رأيتم-البطل الجاسر-مسجى فوق سرير الغمام فلا توقظوه،إسألوا الصاعقة التي شقّت الصخرة إلى نصفين لا يلتحمان.
إذا رأيتم-نجما-ساطعا في الصمت الأبدي فلا تعكرّوا لمعانه بالكلمات.
اسكبوا دمعة سخيّة على جبينه الوضّاء ،دمعة في لون اللؤلؤ،واكتموا الصرخة المدوية كالرعد في كهوف الرّوح..
وأخيرا إذا رأيتم المغنّي الجوّال حاملا قيثارته،افسحوا له مجالا في الدروب لينشد أغنية الوداع للنجم الآفل..
تقول الأغنية:
هناك كثيرون أمثالك..أعلّوا وشادوا..
وفي كل حال أجادوا..
وأنت أنجزت بالصوت والكلمة كل الذي في يديك..
وما عرف المستحيل الطريق إليك..
لأنّك تؤمن أنّ الخطى إن تلاقت قليلا..
ستصبح جيشا وصبحا نبيلا..
وأنت ككل الذين أرادوا لوجه غزة رداء جميلا..
تمنيت أن ينبلجَ الصبح من مقلتيك..
فعلت الذي كان حتما عليك..
ومن كان حتما على الأبطال..جيلا فجيلا..
الحياة-يا فقيدنا الفذ-تصبح أكثر
ضوءا،وهدوءا.الحياة المؤقتة-يا أنس-التي تحدّثت عنها يوما،وعرفت كيف تبقى خالدا فيها،وخارجها:أهمية الحياة،وفضلها،يكمن في كونها مؤقتة،في أنك عليك أن تظهر خلودك في مكان آخر،وذلك المكان هو”الإنسانية”.