كتاب وشعراء

بين غربة الرحيل وصدمة الفقد: ظلّ الصداقة الذي لا يزول”…..بقلم سيد محمد محمد اطفل

في الحياة أقدارٌ نافذة لا تخطئ سبيلها، تدفعنا أمامها دون سؤالٍ أو اختيار، ولا يبقى للمرء إلا أن يقف مذهولًا أمام أقدارٍ جرفته عن إلفٍ كان معه يشاطر أيامه وأمانيه. ولقد عرفتُ من صحبةِ الدهر صديقين وأخوين كانا لي عونًا وملاذًا، ومُربين لصداقةٍ لم يكن فيها ملامح الزيف ولا شوائب الوقت. كأنّهما كانا نبضًا ثالثًا يضاف إلى قلبي، وأملًا يُضيء العتمة إذا غاب الأفق.

غير أن أقدارَ الرحيل خُطّت بأحرفٍ مُرة على صحائف القدر؛ فالأوّل حملته الأقدام نحو بلادٍ بعيدة، حيث رحل إلى الولايات المتحدة الأمريكية، كأن الأرض لم تُطق احتضان خطواته فأبعدته عني بعيدًا. وكان الرحيل رغم مرارته لا يخلو من بصيصِ الأمل الذي يلقيه وعد اللقاء، فالمسافة بيننا وإن كانت طويلة إلا أن الأمل يختبئ بين أحاديث الصباح وموعد الوداع الأخير. لكنّ ما جاء بعد رحيله لم يكن ليخطر ببال، ولم يمهلنا القدر فرصة استيعاب الغياب.

في أسبوع رحيله الأول، كان الشارع شاهدًا على قسوة الدنيا حينما تصدم الحياة قلبًا ما زال ينبض بالشوق والحياة. حادثةٌ أبت إلا أن تودي بروحه الطاهرة في لحظةٍ لم تكن تحسبها الأيام. كأن الفقد جاء ليجعل كل المسافات التي وضعتها الجغرافيا تقزّم أمام غيابٍ لا يُعوَّض. كيف لقلبي أن يستوعب أنه قد رحل إلى سفرٍ لا عودة منه؟ وكيف للعين أن تذرف دموعها دون أن تُفسّر فجيعتها؟

كنتُ كلما اشتدّ الحنين بأخينا الأول، هممت بالكتابة له لأقصّ عليه ما فاتنا من أحاديث، فإذا بالخبر المشؤوم يُطبق على روحي كأنّه سياجٌ من حديد. لم تعد الحياة كما كانت، ولم يعد الزمن يُحسن دواء الجراح. كنت أبحث عن شظايا الأمل بين تفاصيلنا الصغيرة، أحلامنا المشتركة، تلك السهرات الطويلة، والضحكات التي كانت تُربت على أحزاننا. كيف تتساقط الذكريات تباعًا كأنها ورق الخريف؟ وكيف يُصبح الصديق غريبًا في مكانٍ بعيد، ثم تُصبح الرحلة موتًا لا عودة فيه؟

لقد رحل الصديقان عني، لكنهما لم يغادرا قلبي؛ الأول هاجر بجسده وبقيت ذكراه، والآخر انتقل إلى دارٍ لا تَعب فيها ولا فراق، وبقيتُ هنا أحمل ثقلاً لا تُطيقه أكتافي. ليس غريبًا أن يسألني الناس: كيف بقيت بعدهم؟ وكيف أواصل الطريق بعد أن خلت الساحات منهم؟ وما علموا أنّ الفقد يُورّث الصبر رغم شراسته، وأنّ الصديقين صارا ظلًا لا يفارقني، وحديثًا في وحدتي، وجرحًا في القلب لن يُطمره الزمن.

كانا شجرتي ظلّي؛ ما كنت لأخشى وهج الدنيا طالما ظلالهما تُغطي روحي. كنتُ أجدهما أمامي حين أستوحش الطريق، أُفضي إليهما سرّي، وأرتب على أكتافهما ما يثقُل بي من هموم. أي حزنٍ هذا الذي لا تُفسّره كلمات؟ وأي يقينٍ ذاك الذي يُسلّيني بأنّ الدنيا دار افتراق لا دار اجتماع؟

ما زلت أرى صورهما بين طيات الذاكرة، وأسمع همس أصواتهما كلّما أغمضتُ عيني؛ كأن الفراق لم يُنهِ الحكاية بل تركها ناقصةً بلا خاتمة. الصداقة الحقيقية ليست حبرًا على ورق، بل هي شجرةٌ تضرب جذورها في أعماق الروح، وإذا اجتُثّت جذورها، يبقى مكانها شاغرًا لا تملؤه البدائل.

ها أنا بعدهما، أقف وحيدًا، أنظرُ إلى الحياة بعينٍ أُرهقتها الحوادث وقلق الأيام. أقفُ صامتًا أُجيل النظر في السماء، أُسلّم أمري لله، وأوقن أنّنا في سفرٍ طويل؛ منهم من سبقنا إلى دار القرار، ومنهم من تُكتب أقدار عودته بعيدًا عن مرأى القلب، ويبقى الصبر هو الزاد، والذكريات هي السلوى.

بين غربة الرحيل وصِدمة الفقد، يبقى أثر الصداقة نبراسًا لا يخبو، وشاهدًا يُحكي للأيام أنّنا عشنا معهم أجمل الفصول، وبقينا بعدهم نُردد على مسامع الأيام: “هكذا يمضي الصادقون، وهكذا يُخلّد الأوفياء”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى