وحيد عيادة يكتب :حارس في الضباب
في ليلة شتوية شديدة البرودة، وعلى ملعب محاط بضباب كثيف، انطلقت مباراة لكرة القدم بين فريقين عريقين. ومع أولى دقائق اللقاء، بدأ الضباب يزداد كثافة، ليحجب الرؤية تدريجيًا عن اللاعبين والحكام والجماهير. على وقع صافرة الحكم التي بالكاد سمعها اللاعبون، تم إعلان إيقاف المباراة حفاظًا على سلامة الجميع، وغادر اللاعبون أرض الملعب متجهين نحو غرف الملابس.
لكن وسط هذه الفوضى، ظل هناك شخص وحيد يقف بثبات بين العشب المبلل والضباب الكثيف: حارس المرمي الذي لم يكن يعلم أن المباراة قد أُلغيت، فقد طغت صيحات الجماهير القليلة التي بقيت خلف مرماه على صوت صافرة الحكم. وقف الحارس، متحفزًا، عينه لا تغادر الكرة التي ظن أنها ستأتي مباغتة من الضباب.
المأزق: مواجهة الموت بعد مرور دقائق طويلة، بدأ الحارس يشعر بشيء غريب؛ لم يرَ أي لاعب يتحرك أمامه، ولم يسمع أي صيحات أو هتافات. فجأة، تناهت إلى سمعه أصوات أخرى قادمة من خارج الملعب. قبل أن يدرك ما يحدث، لاحظ وهجًا خافتًا يتجه نحوه؛ سيارة شرطة كانت قد دخلت أرض الملعب بحثًا عنه. انطلق الحارس نحوها معتقدًا أنها إنقاذ، لكنه لم يكن يعلم أن السيارة اقتربت أكثر مما يجب. تعثر الحارس وسقط على العشب، قبل أن يتوقف السائق فجأة ولكن بعد أن دهس الحارس بين عجلات السيارة !
و عندما تم إنقاذ الحارس ونقله خارج الملعب، قال جملة هزّت مشاعر الجميع:
“يحزنني أنني بقيت أحرس مرماهم وهم غادروا منذ البداية، وظننت طوال الوقت أننا نهاجم معًا.”
كانت هذه الكلمات بمثابة مرآة لما يعيشه كثيرون في حياتهم. كم من مرة حرسنا ظهور أصدقاء اعتقدنا أنهم بجانبنا، لكنهم غادروا في أول اختبار؟ وكم مرة حافظنا على عهدٍ بإسم الوفاء والمبادئ، بينما كانت هناك نفوس أخرى تتآمر علينا في الخفاء، تزرع الشكوك وتبث روح السلبية و تفرش سجاد الأشواك !
الحارس كان يمثل النفس الطيبة التي لا تنتظر المقابل، بينما غياب زملائه عن إخباره بما يحدث يعكس النفوس المتخاذلة التي لا ترى سوى مصالحها. كانت العبرة واضحة: الوفاء الذي يُقدم بلا حساب قد يتحول إلى استنزاف للنفس إذا لم يجد من يقدره.
و هنا نتوقف قليلا : هل نعطي بلا مقابل؟ تتركنا هذه القصة أمام سؤال حائر: هل نستمر في العطاء بلا مقابل؟
قد يقول البعض إن الوفاء والإخلاص لا يعرفان حدودًا، وأن النفس الطيبة لا تنتظر شيئًا. ولكن الواقع يعلّمنا أن العطاء بلا مقابل قد يتحول إلى تضحية مدمرة إذا لم نجد من يقدر هذا العطاء.
في حياتنا، هناك نوعان من النفوس: نفوس طيبة، تؤمن بالود والحب وتحمي ظهور من تحب بالغيب، ونفوس خائنة، تحقد وتبث السلبية لتقضي على روح العطاء. وبين هذا وذاك، يبقى السؤال: كيف نوازن بين العطاء والحفاظ على أنفسنا؟
قد تكون الإجابة في التعلم من حارس المرمى الذي ظن أنه يهاجم مع فريقه، بينما كان في الواقع وحيدًا. الوفاء جميل، لكن الأجمل أن يُمنح لمن يستحق.