كتاب وشعراء

*النسق المضمر وشعرية الاحتجاج في نص “كلوا” لطارق طنيحا: قراءة في ضوء النقد الثقافي* كتب/ فضل صالح *مدخل إلى الشاعر:*

يطلّ علينا الشاعر طارق طنيحا من بين ركام الألم الوطني، لا بوصفه متألمًا فقط، بل شاهداً ومُدينًا ومُحرضًا. إنّه من أولئك الشعراء الذين لا يقفون في عتبات الندب، بل يفتحون بوابات القصيدة على فُوّهات الغضب، ويكتبون بالدم بدل الحبر، وبالضمير الجمعي بدل الصوت الفردي.

يمتلك طنيحا نَفَسًا احتجاجيًا عالي الوهج، لا ينفصل عن الواقع ولا يتواطأ مع رموزه المهترئة.
وفي قصيدته “كلوا”، يقدّم لنا نصًا شعريًا زاخرًا بالتناصات الثقافية والدينية واليومية، تنصهر فيه المرجعية التاريخية مع الواقع السياسي، ليعيد للقصيدة دورها الأصيل كأداة مقاومة، لا ترفًا بلاغيًا.

*شعرية التناص الثقافي*
*حين تتحوّل الذاكرة إلى سلاح*

منذ مطلع القصيدة، يُستحضر فعل الاحتلال والفساد لا كمجرد شكاية، بل كمعنى ثقافي مركزي يتجذّر في وعي جمعي مهزوم، يستنهضه الشاعر بعبارات تصطخب:

“كلوا – يا لصوص النفط – أموالنا كلوا
وعيثوا فساداً في السعيدة واقتلوا”

هنا يبدأ التناص الثقافي بالعمل: ليست “السعيدة” مجرّد لقب جغرافي، بل إشارة تاريخية ثقافية إلى اليمن في أدبيات التاريخ العربي.
لكن الشاعر يُفرغ المصطلح من قدسيته، ويعيد ملأه بسخرية دامغة؛ “السعيدة” الآن ساحة مسفوحة تحت أقدام الفاسدين.

*التناص الديني كرافعة أخلاقية للاحتجاج*

في موضع آخر، يلجأ الشاعر إلى مرجعية دينية لا ليستدعيها فحسب، بل ليقيم عليها محكمة شعرية:

“خذوها ، فإنّ الله يحكم بيننا
غداً نلتقي في الحشر ، والموت فيصلُ”

هنا يشتبك التناص مع المتلقي المؤمن، ويمنح النص بعدًا عقابيًا قَدَريًّا، فيضع الخصم تحت مظلة الحساب الإلهي، حيث لا تنفع السلطة، ولا تُجدي الثروة.
هذه الآية الشعرية تناظر النصوص القرآنية التي تبشّر بفصل يوم القيامة، مما يجعل القصيدة مؤمنة بعدالةٍ مؤجلة، لكنها حتمية.

*تفكيك الرموز الرسمية عبر التناص*
لا يكتفي الشاعر بجلد الأفراد، بل يفكك الرموز التي باتت تُستخدم لتضليل الجماهير:

“وما العَلَمُ المرسوم إلا لأجلهم
وما هذه الأصوات إلا توسّلُ”

العَلَم، الأصوات، الدولة، كلها تتحوّل إلى مجازات زائفة، تُنتزع من معانيها الأصلية وتُعاد كتابتها بوصفها رموزًا لخداع الجماهير، لا لحمايتهم.
إنه تناص ثقافي مضاد، يعيد النظر في النصوص المؤسسة للسلطة.

*الشعب الغائب/الحاضر… حين يكون الجوع أيقونة*

“ثلاثون مليوناً ولا قوتَ عندهم
وأنت لسوق القات مليونَ ترسلُ؟!”

هنا يُستحضر تناص الواقع اليومي، إذ تتحوّل مفارقات الاقتصاد الشعبي إلى رموز للاختلال الاجتماعي.
إن التناص هنا لا يأتي من الكتب، بل من أسواق القات، وموائد الجوعى، ودموع الأمهات.
هو تناص مع الذاكرة اليومية المعذبة، يمسك بتفاصيلها لينسج منها خطابًا شعريًا مقاوِمًا.

*الشعر بوصفه منجلًا*

في ختام القصيدة، يبلغ التناص ذروته الجمالية في استعارة الشعر سلاحًا:

“ويا شاعر الأيتام أرسل عليهمُ
قوافيَ ترديهم ، فشعرك منجلُ”

هنا يضع الشاعر نفسه ضمن سلالة شعراء المقاومة، الذين يحوّلون القصيدة إلى فأس، منجل، طلقة، صرخة، نار.
تتجلى هنا ذروة التناص الثقافي، فتمتزج الرمزية الزراعية (المنجل) بدلالات الثورة، مما يمنح النص بعدًا طبقيًا، ووطنيًا، وإنسانيًا.

*القصيدة بوصفها مرآة الغضب الجماعي*

إن نص “كلوا” ليست فقط صرخة احتجاج، بل مرآة ثقافية متعددة الطبقات، ترصد الواقع، وتعيد إنتاجه بشعرية مشحونة بالتناص.
وفي هذا التناص، تتناغم الآيات مع الشعارات، والرموز الدينية مع الصور اليومية، والتاريخ مع الحاضر، لتنتج خطابًا شعريًا عالي الشحنة، عميق التأثير.
بهذا يكون الشاعر قد أنجز عملًا شعريًا لا يكتفي بالقول، بل يحرض، يفضح، ويحضّر للمستقبل، حيث يكون الشعر منجلًا، والقصيدة وطنًا بديلًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى