بروفايل

سـهــير حلمــى تكتب : الشيخ عبد الباسط عبد الصمد وريح يوسف !

صوته يهز كيانك ويجتاحك .. يتملكك .. يمس قلبك .. صوته قوى هادر نابع من قلب خاشع .. صوته ممتلئ بالإيمان .. مُصدق لما يقرأ .. إنه الشيخ عبد الباسط عبد الصمد الذي يزلزل المكان بذبذباته القوية ونفسه الطويل وحنجرته الذهبية التي تترنم بأحكام القراءات والتجويد باقتدار .. شموخ عجيب يستأثر به صوت شيخنا الجليل تستشعر من خلال سماعه بلاغة الحديث الشريف : ” المؤمن القوي خير عند الله من المؤمن الضعيف “.

في البدء كان ( كُتّاب ) قرية المراعزة بمركز أرمنت بقنا الذي رسم هذه الموهبة الربانية بتلك الملكات الفريدة التي امتازت بها المدرسة المصرية في التلاوة فتميزت بسمات الكُتّاب وتشابه البدايات عن غيرها من المدارس الأخرى في عالمنا الإسلامي .. هو ( الكُتّاب ) الذي كان يرى الشيخ مصطفى إسماعيل انه المسئول عن تميز أسلوب مدرسة القراءات المصرية وريادتها في أسلوب ( الأداء المنغم ) من خلال القراءة منذ الصغر وتوارد هذا الأسلوب في التلاوة عبر الأجيال .. وعبد الباسط عبد الصمد يعد عميداً لهذه المدرسة بامتياز .. هو ” نغم المقرئين ” .. حين سُئل الإمام الجليل متولي الشعراوي عما يميز صوت كل مقرئ .. منح قوة الصوت وجماله للشيخ عبد الباسط .. هكذا تبوأ مكانته الرفيعة بين المشايخ منذ نعومة أظافره في بيئة قرآنية كان فيها الجد عالما بالقراءات وعلومها والأب حافظا وقارئا لكتاب الله.

نشأ الشيخ الجليل مفطورا على حب القرآن وسماعه وترتيله .. وحين شبّ عن الطوق وحضر مولد السيدة زينب .. شاءت الأقدار أن يترك له الكبار أريكتهم لكي يكمل التلاوة التي استفتحها بقوله تعالى : «إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما» فتعالت التكبيرات والصلاة على النبي.

” في عام 1951 اعتمد في الإذاعة المصرية وبمجرد انطلاق صوته النابض بالإيمان والأداء الرفيع المُحكم ” فصاحة النطق وبلاغة الترتيل ” مترنما بحروف الإدغام .. واصول الوقف والمد وغيرها من أحكام حتى ذاع صيته من خلال الراديو الكهربائي الخشبي العتيق الرابض على رفوف المقاهي الشعبية .. كان صوته يجتذب كل المشتاقين لسماع آيات الذكر الحكيم .. حتى أنه تسبب في ازدياد مبيعات أجهزة الراديو .. فإذا تواجد في احتفالات دينية تهللت الناس بعد أن علق قلوبهم بالسماء وفي لحظات ينتقل بهم ببراعة وإتقان من قراءة لقراءة ومن حالة لحالة .. فذاعت شهرته في الآفاق وفتح الله بصوته قلوبا صلدة طال بها الأمد في البعد عن فردوس الفرقان .. هو سفير فوق العادة في دولة القراءة .. أطلق ُعليه ” قارئ مكة” كان يملك من الشجاعة الأدبية ما أهله لتعديل قراءة شيخ الحرم المكي وتصويبها بعد أن فرغ منها .. فأقر الشيخ بجدارته وطلب منه البقاء معهم في الحرم المكي .. وجلجل صوته بالخشوع في الحرم المدني في حضرة سيد الخلق .. وارتحل إلى المسجد الأقصى ورتل في المسجد الإبراهيمي في الخليل واستقبله الرئيس الباكستاني في المطار استقبال الرؤساء والملوك. وشب الناس في الهند واندونيسيا على أطراف أقدامهم بالساعات لكي ينعموا برؤية هذا الوجه الصبوح الذي تم تشبيهه بمارلون براندو في الملامح والقسمات .. أما السيستاني ( المرجع الشيعي في العراق ) فقد فرض حظرا على بث قراءته للقرآن متعللا بأن الشيخ عبد الباسط عبد الصمد يتغنى بالقرآن من مقام عراق !.

ولم تكن إلا حجة تستحق الاستياء .. لأنها تعد افتئاتا على صاحب مدرسة متفردة .. ألم يقل رسولنا الكريم : ” زينوا القرآن بأصواتكم ” وشيخنا حاز أكبر نصيب من الشعبية بسبب جملة من الأسباب في مقدمتها سماته الصوتية وتمكنه من المقامات بصوت آخاذ ملائكي شجي .. يهز الوجدان ويخلب الألباب .. ومن ثم فالرجل كان متمكنا مدركا أن ما فوق البياض فهو البرص .. وما فوق القراءة لن يعد قراءة .. إنه الإمساك بالأصول والأساسيات التي لا يتقنها إلا الرواد الكبار الذين يعبدون الطريق بأسلوبهم المتفرد لكي يعبر بعدهم الآخرون .. وإن شئنا الدقة فطبقة صوته لن تنحصر في الجواب والقرار ولكنه يُعد ” جواب الجواب : فهو الأعلى والأقوى والأكثر نغما من بين المقرئين في ساحة كانت تموج بالنجوم والأقمار والشموس.

تجربتي الشخصية مع الشيخ عبد الباسط عبد الصمد تجلت في سماعي لسورة يوسف وما تكتنزه من أفضال في تفريج الهم والكرب وما تحمله من عبر ودروس ومعان .. نحن بصدد الحديث عن ( أحسن القصص ) كما وصفها الرحمن .. نحن بحضرة دراما قرآنية تعج بالمشاهد وتمور بالأحداث وتتدرج في الأحوال من الذنوب إلى التوبة إلى الصبر الجميل .. السورة نزلت على رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في عام الحزن فكانت بردا وسلاما على قلبه المفطور على زوجته الحبيبة وعمه الذي سانده.. لا متعة عندي تضاهي متعة سماع هذه السورة الكريمة بصوت الشيخ عبد الباسط وهو يستنزل آيات الترغيب والترهيب واليأس والرجاء وأسياط العذاب ونسمات الرحمة .. سورة يوسف التي قوامها حلم يتحقق وظلم ينجلي .. يجسدها الشيخ عبد الباسط بشغف السامع ورؤيا الراوي «إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين» ويحتشد صوته الرنان الشامخ لما سيأتي من تجسيد للمعاني واستجلاء لبواطن الأمور .. وبصوت خفيض يهب بنفحة روحانية وهو مغمض العيني مبشرا بالصبر الجميل.

«وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون» وبصوته الجليل ينقل روح الآيات لأنه هاضم لها .. مطلع على أسباب نزولها .. فاطن للأسلوب الأمثل لقراءتها .. فينخفض الجواب ويتراجع ليذكرنا أن الصبر الجميل هو الصبر الذي يخلو من الجزع والشكوى وبث الهم .. ثم يستدعى بطبقاته الصوتية آيات الوعيد والاستنكار وهو يعلو من ليونته وسكناته : «اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين».

ولا أروع ولا أجمل من الشيخ عبد الباسط عبد الصمد وهو يتصدق ويختتم آيات الذكر الحكيم بصدق الله العظيم .. وعند نهاية سورة يوسف .. بالنسبة لي .. أتمنى في كل مرة الرجوع ثانية للاستزادة وأتسمر ويقشعر بدني وأنا أسمعه بأدائه الساحر يجود في آية : «ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا» ولا أبدع من هذا التشبيه الذي يرتله بطريقة مجسمة «إني لأجد ريح يوسف» عندها تستشعر أنك تشاهد وتشم وترى شعاع الأمل وهو ينبثق بالبشارة والفرج ومن منا لا يحتاج لهذا الضوء الربانى .. يا الله .. كيف السبيل للفكاك من هذا السحر البديع في تجسيم المعنى بالأداء المعجز للشيخ الجليل .. هم قراء القرآن .. كلما علا صوتهم بحروفه ازداد قوة وجلاء .. وهذا هو سر خلودهم .. وبقاء أثرهم في نفوسنا كلما استمعنا للذكر الحكيم بأصواتهم .. اللهم انفعنا بما تركوه لنا من ميراث وأثبهم بكل حرف نطقوه .. اللهم آمين. 
……………………………………….
عن أهرام الجمعة 3 يونيو 2016 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى