فيس وتويتر

سيف سالم يكتب ..رهانات الواقع السياسي وأزمة التحليل

خلال النقاشات السياسية مع الأصدقاء ألاحظ أنّ هناك خللاً أساسياً يظلّل كلامنا عن السياسة. حين نتكلّم في الأوضاع والخيارات والتحليل، ونتجادل في الرأي الأصلح أو الأفضل، أو الأكثر أخلاقية ومثالية، فغالبا ما نقارب النقاش كأننا «ذوات متعالية»، محايدة؛ أي كأننا – مثلاً – جميعاً أرستقراطيون، لا حاجات لدينا ولا قيود علينا، وجلّ ما علينا فعله هو أن نكتشف – بالعقلانية والحكمة – «الرأي الصحيح» بالمعنى المطلق للكلمة. هذا قد تكون له علاقة بالتاريخ «النخبوي» للسياسة، وأنّ أكثر من كان يشارك في النقاش العام عبر التاريخ كان بالفعل أرستقراطياً، يشكّل رأيه بحريّة ويطرحه من زاوية متعالية على ذاته، أو يصطنع هذا الشكل من الخطاب حتى أصبح تقليداً. في الحقيقة، فإنّ أغلبنا ليس كذلك. والتّحدّي الحقيقي الذي يُعجز أكثر النّاس، والامتحان الذي يجعلهم يساومون ويتنازلون ويخسرون مثالياتهم وصورتهم عن أنفسهم، هو ليس تحدّي «اكتشاف الحقيقة» والنجاة من الضلال، بل التحدّي الفردي الشخصي الذي يتعلّق بمعاشك وضمان قوتك، وأن تجد موقعاً يعصمك من الفقر والخوف في مجتمعٍ قاس. أي نظرية سياسية تتوجّه الى هؤلاء النّاس، ولا تتضمّن اعتباراً لهذه المخاوف الحقيقية، المادية والمباشرة، فيها شيء من الترف.
الهدف من السياسة هو ليس ( العمل الخيري من أجل ربح أجر ) أو أن تظهر نكرانك لنفسك. في الحقيقة، فإنّ السياسة هي سبيلٌ لكي تكون أنانيّاً بشكلٍ نبيل: انت تريد أن تبحث عن ما هو أفضل لك، وعن بناء مستقبلٍ ترغب به لك ولأولادك، وهذه هي الحاسّة الطبيعية عند كلّ الأفراد. ولكن، عبر السياسة، فأنت تجبر نفسك على التفكير بهذا الطموح من زاوية جماعيّة، وأن تحوّله الى أفكارٍ لا تناسب شخصك فحسب، بل تخدم الأغلبية وتستجيب لمعاناة من يشقى ويتألّم أكثر منك؛ أفكار في وسعك أن تشرحها لأيّ انسانٍ بشكلٍ عقلاني ومنطقي، ومن المفترض أن يوافقك عليها. لو أردنا التطرّف قليلاً، من الممكن القول إنّ «الخير» في العالم لن ينتصر حتّى يصبح من يحمل مثل هذه المفاهيم السياسية، الجماعية، أكثر طموحاً وشراسةً وتآمراً من الفرداني الطمّاع الثري، الذي رسم طموحه على قياسه ويسير في العالم يحرّكه الجّشع.
من هنا ايضاً، فإنّ أي نظرية أو خطّة سياسية تختلف باختلاف السياق الذي يجد الأفراد فيه أنفسهم. تخيّلوا الفارق، مثلاً، بين أن تناقش السياسة والتنظيم والمستقبل وحولك «دولة وطنية»، فيها تعليم مؤمّن وصحّة مجانية وسبيل مستقيم للارتقاء (وهذا، بدرجة أو بأخرى، كان السياق الذي عاش فيه أكثر الناس منذ أربعين عاماً) وبين أن تطرح هذه الأسئلة في العالم النيوليبرالي اليوم، حيث لا ضمانة لك (أو لغيرك) ولا سند، ولا «مساحات حرّة» للسياسة، وكلّ شيءٍ بثمنه، والارتقاء غير مضمونٍ وثمنه مرتفع. ظروف التاريخ قد تضيّق على المجتمع أحياناً حتى تختفي السياسة أو تكاد، ولبنان مثالٌ على ذلك.

ما يجعلك تشعر بلا جدوى السياسة، بمعناها التقليدي في تونس لا يقتصر على هذه الظروف الموضوعية، بل ايضاً معرفتك بأنّ ما يسمّى اصطلاحاً بـ«النظام السياسي» ليس قادراً، بنيوياً، على الاستجابة للمشاكل الحقيقية (طريفٌ أنّ، في بلدٍ صغيرٍ كتونس كلّ شيء فيه مشخصن وفي كلّ موقع أفرادا معدودين ومعروفين، نستخدم تعابير مفخّمة ونظرية للاشارة الى الفئات السياسية والنظام، كأننا في الصين الامبراطورية). هذا نظامٌ يصلح (الى حدّ ما) للتفاوض بين النّخب، هو يؤمّن توزيعاً للمنافع ضمن الطوائف، هو يصنع واجهةً وسياسيّين ومرتقىً لأصحاب الطموح، ولكنه – بتكوينه وقدراته وطبيعته – ليس قادراً على التعامل مع المشاكل التي نطرحها أعلاه، فهي أكبر منه. هذا بمعنى أنني لو نزلت في مظاهرة، أو واجهني مسؤولٌ كبير وطلب منّي أن اقترح واتمنّى، فأنا لا أعرف صدقاً ماذا يمكن أن أقول له، من دون أن أطلب ما أعرف أنّه لا يستطيع تقديمه. ارفعوا الضرائب على الاثرياء والمصارف؟ افرضوا ضريبة عقارية؟ قانون جديد للانتخابات؟ هذا كلّه لا يمسّ أصل المشكلة ولن يغيّر في ظروف النّاس. هل تطلب منه أن ينقلب على شركائه وأصدقائه ومصالحه؟ هو لن يقدر على ذلك وإن أراد. «العمل من ضمن النظام» والتوازنات القائمة لن توصلك الى أكثر مما تحقّق في الماضي.
بهذا المعنى، كان من الممكن أن ننظر الى القائمين على النّظام التونسي ووجوهه باعتبارهم » لا حول لهم، لولا أنّهم، مقابل لعب دورهم في تسيير النظام المالي واستمرار الرّيع، يشاركون في السّرقة والاثراء على حساب الأكثرية. هذا سياق السياسة في تونس وعلينا أن نفكّر من ضمنه وعن فهمٍ لحدوده وكيف نخلق مساحاتٍ للعمل فيه ، بالنسبة الى العديد من الناس في تونس، لا حاجة الى حلٍّ جماعي. حين تكون الظروف سيئة، فقد يصبح من العقلاني أن تيأس من أفكار العدل وأن تدخل السباق وتراكم لأجلك ولأجل أولادك وتجعل ذلك الاعتبار الوحيد الذي يحرّكك. من جهةٍ ثانية، فإن استمرار الوضع القائم يناسب فئات كثيرة في البلاد : من الكبار الذين راكموا المليارات من الريع السهل، الى شركاء التجارة والفساد والسياسة، وصولاً الى «الموظّف الكبير» الذي ضمن حياةً من الرخاء في البيروقراطية بفضل العلاقات والواسطة ودافعي الضرائب (ولو كنت مكان أيٍّ من هؤلاء، لاخترت تونس بالطبع على أيّ بلدٍ آخر في العالم). وهناك ايضاً، على الهامش، الإعلامي «المتمرس » وباقي «باثي الخبر » الذين يقومون بـ«تزييت» النظام، ولهم حصّة. هؤلاء جميعاً يريدون للحالة أن تستمرّ بأيّ شكلٍ وبأيّ كلفة، وأن يزيدوا المراكمة الفردية ويسعوا في مشروعهم الخاص قبل كلّ شيء وهذا، كما قلنا، خيارٌ «عقلاني» لهم لا أكثر. ولكن، على الجهة الآخرى، نجد الأكثرية التي لم تحصل على موقعٍ مريح في النظام. وهي، حين تقع الأزمة وتنتفي السياسة وتفهم كلفة ما ينتظرها وينتظر ابناءها، فقد تصبح «العقلانية» بالنسبة اليها، والمفهوم الوحيد الممكن للعدالة، هو في منع الفئة الأولى أعلاه – هذه النوعية من الناس تحديداً – من التمتّع بأي ّمليم ٍ كَنَزوه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى