بروفايل

المِلاحَةُ فى بُحُورِ مُضطَرِبَة .. فصول من كتاب الدكتور محسن عبدالخالق ـ المقدمة ـ

مُقَدّمَةُ :
ليست هذه قصة من صُنعِ الخيال أو هى مُجَرَّد ذِكريات الطفولة وما بعدها قبل المراهقة ، وإنما هى ” تَجرِبَة حَيَاة ” عشت وقائعها وأحداثها إيقَاعًا ، ونبضًا ، وحِسًّا ، وأنا أصعد سلالم العذاب صُعُودًا إلى مَجَرَّات الحُلم . هى رحلة لها مقاس بعد خطوة لها مقاس آخر ، وهى عَملية بناء حَجر يقوم فوقَ حَجر ، وطابق يرتفع على طابق تحته ، أيامَ كنت أحاول أن أحفُر لنفسى موقعا وأساسًا فى اللغة حتى يكون البناء المنطقى لما سوف أقول راسيًا وراسخًا . وهى كذلك مشاهد حَيًّة آثرت أن أختار لك بعضها من كتابى الأخير ” المِلاحَةُ فى بُحُورِ مُضطَرِبُة ” لكى تتعرف على طبيعة الجسر الذى قررت السير عليه ، كل مشهد يحتوى على لقطات ، وكل لقطة متمّمَة لما قبلها ممهّدة لما بعدها ، فإذا أنت رأيت الستار ينزل فإنه يكون قد نزل على مشهدِ لا يلبث أن يرتفع بعده ليظهر وتتحرك ابتداء منه واتصالاً به مشاهد أخرى .

بعبارة أكثر إستقامة ونفاذا هى مُحاولة عَودَة إلى الأصُول ، والمنَابِع ، والمَرجِعِيَات ، حَرِصت فيها ألا تكون عَودَة مَدرَسيَّة تُوحِى بالرّسُوب وبضَرورَة إعَادَة المَنهَج من أول الأبجَديَّة ، أردّت من خلالها أن أقدّم لوحة حَيَّة وغَنِيَّة بالصّور لونًا ، وصَوتًا .
لقد رأيت أن أعود إلى مَن جَرى فى دَمى عطرهم ” شَخصِياتِ ” كان لها أكبر الأثر فى حياتى فى المَاضِى مستعيدًا صورتها الكاملة أو شبه الكاملة فى أوراقى محاولاً إذا إستطعت أن أسلّط أضواء على أجواء أحاطت بى ، وعلى ما عشته وعايشته من الوقائع كما جرت إيقاعًا ، ونبضًا ، وحِسَّا .

من بين هؤلاء من كان دليلى إلى فكرة التقدم ، وبين هؤلاء من عَرِفته بالحِس أكثر من الدرس ، وكُثُر منهم عَرفته بتجربة الحياة وليس بمعرفة المطالعة أيضًا .
فأنا أشعر فى أعماقى إنحيازًا بجزء من قلبى إلى ” زَمَن مُعَيَّن ” وهذا إنحياز لا أُخفِيهِ ولا أداريه ، وهو إنحياز لا يغرينى به حنين إلى ما مضى ، وإنما يَشُدُّنِى إليه إقتناع حقيقى بأهمية تجربة إنسانية كبيرة تمثل المساحة الفعلية لحيوية مسيرة حاولت خلالها أن أضع علامة تشير إلى طبيعة الجِسر الذى قررت السير عليه ، ورسمت خطًّا بعد هذه العلامة أمشى عليه خطوة وراء خطوة نحو غاية رأيتها هدفًا .

عادة ما أعود إلى قراءة التاريخ وأنا أكتب حِرصًا على فائدة تُؤكّد قيمة ما أكتبه وأنا أمشى به من منطقة الرّواية إلى منطقة الدّراية عند النظر بِعُمق فى الوقائع والأحداث . هكذا أجد نفسى وأنا أكتب وكأنى أمسك القلم بأصابع التاريخ أو كأن إنسان داخلى يُملِى علىَّ السطور ، بحيث يمكنك وأن أنت تقرأ أن تلمس تشريح الفراغ الفنى ، وأن ترى بإذنيك كيف تتقارب درجات الصمت وأنت تبحث عن الأبجدية الأولى المستقاة من التجربة ، وكيف أضافت دراستى لكل عصور الموسيقى ” الباروك ، الروكوكو ، الكلاسك ، الرومانتك ” ملامح جديدة إلى تجربة الكتابة . وترى بعيناك كيف إستطعت أن أنقِر قِشرَة الوعى مطالبًا بحقى فى الميلاد أثناء عملية الخلق الفنى الأولى ، وكيف وُلِدتُ فى لُغتى وأن أظل مقيمًا فيها قراءةً وكتابةً لكى يحيا ولكى ينمو ..

الفصل الأول

أستَاذِى الأوُّل ..
هذه بعض مشاهد رأيت أن أقدّمها هُنَا لأحبابى قبل قُرَّائى إعترافا وتقديرا لؤلئك الذين مَنَحُونِى ما لا أستطيع أن أفى بحقه
ولا أعرف كيف أعبر لهم عن عرفانى بالفضل ، فأمام عَطفهم ورعايتهم يعجز كل قلم ، وينعقد أى لسان ،
ولقد كنت أعتبر نفسى ومازلت سعيد الحظ فى أساتذتى ، وأصدقائى ، وكتبى ،
وقبل ذلك شقيقى المهندس ” عبد المجيد عبد الخالق ” – رحمه الله – ” أستاذى الأول ” الذى كان أول من عرّفنى على شكل حروف الأبجديَّة ،
وكيف أنطقها نُطقًا صحيحًا وأنا مازلت طفلًا صغيرا يتعثر فى قِراءتها ،
وهو أول من أضاء عقلى ، لولا هذا الأخ النبيل والأستاذ العظيم المهندس عبد المجيد عبد الخالق لإنحصر الضوء أمامى ،
وما كنت أنت أيها القارىء الكريم قد عَرِفت أو تَعَرَّفت على هذا القلم ، ولا كنت قد قرأت هذه الكلمات التى تقرأها الآن ،
فما أنا إلا من غرس يديه ، كما كان من نِعَم الله وفَضله علىَّ أن مَنَحنى هذه الزّوجَة العظيمة التى لم أعرف لها فى الحياة نظير ،
تلك الرائعة التى أرى الأشياء بعيناها ، وهى التى كثيرًا ما أعودُ إليها لأشحن نهارى من نُورِها ، فهى زوجة مُضِيئة ،
وهى التى أشعر وأنا أكتب أن يَدها لا تُسَانِدُنى فحسب ، وإنما يَدَها تعزف إلى جوار يَدى ،
هذا ويزداد كَرم ربِى سُبحَانه وتعالى عَلَىَّ بأبناء هم عِزى، وفخرى ، وثمرة جِهَادِى الذى أزهُو به فى الحياة وتلك من نعم الله .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى