محمد الخطيب يكتب :الشمولية في سوريا الجديدة
في ظل التحولات السياسية العميقة التي تحدث في سوريا، برزت الشمولية كإطار مركزي لفهم ملامح الحكم الجديد، إذ يبدو أن السلطة الناشئة، بكلّ أذرعها التنفيذية والعسكرية، تسعى لفرض أنماط ثقافية وإيديولوجية ذات طابع شمولي ، تمثل تصورًا أحاديًا لصورة المجتمع. هذا التصور، الذي يتسم بإقصائية صارخة، يُهمّش التعددية في أبعادها الدينية، الجندرية، والاجتماعية، ما يعكس إرادة سياسية لترسيخ هوية موحدة تُخضع التنوع المجتمعي لهيمنة خطاب أيديولوجي صارم.
غير أن هذه المساعي الهيمنية تصطدم بتعقيدات البنية الاجتماعية السورية، التي لطالما اتسمت بتنوعها الإثني والطائفي والثقافي. ورغم مظاهر التفاؤل الساذجة التي تسود لدى بعض الأوساط المجتمعية، والتي تستند إلى صلابة التعددية الراسخة في النسيج الاجتماعي السوري، يظل هذا التفاؤل هشًّا أمام إرث ثقيل من الشمولية المؤسسية، التي ساهمت عبر عقود في صياغة حالة من التكيف القسري، لا سيما تحت وطأة قمع ممنهج طمس التعددية وأخضعها لمنطق المركزية السياسية والثقافية.
في المشهد الراهن، تبدو السلطة عازمة على إعادة إنتاج هذا النموذج الشمولي، لكن بأدوات أكثر تعقيدًا من حيث الجمع بين العنف المادي والخطاب الرمزي. إذ تعمل النخبة الحاكمة، التي تتركز في يدها مفاصل القوة السياسية والاقتصادية، على بلورة سردية دينية أحادية تسعى لتوحيد الهوية السورية وفق معاييرها الضيقة. هذه السردية، التي تعتمد على استراتيجيات الأدلجة والإخضاع الثقافي، تهدف إلى فرض حالة من التماهي الجمعي الذي يمحو التناقضات الداخلية ويقمع أي محاولات لإعادة إنتاج تعددية سياسية أو ثقافية.
ورغم الطابع القسري لهذه الشمولية، يبدو أن بعض مظاهر التكيف الطوعي بدأت تتسلل إلى السلوكيات الفردية والمؤسساتية على حد سواء. هذا التكيف لا ينحصر في الخضوع المباشر، بل يظهر عبر ما يمكن وصفه بـ”استباقية الهيمنة”، حيث يتحول الخوف من العقاب أو الإقصاء إلى محفز للتماهي مع القواعد الجديدة. على سبيل المثال، نشهد مظاهر مثل ارتداء الحجاب من قبل نساء لا يتبنينه بالضرورة كقناعة شخصية، أو تعزيز الفصل بين الجنسين في المؤسسات التعليمية دون ضغط قانوني مباشر. هذه الديناميكيات تشير إلى تشكّل ثقافة من الانصياع المبطّن الذي يُعيد إنتاج بنية السلطة الشمولية من القاعدة إلى القمة.
مع ذلك، لا يمكن للشمولية أن تحقق اختزالًا كاملًا للتنوع الثقافي والاجتماعي، مهما بلغت قوتها القسرية. إذ تظل التعددية حاضرة في شكل مقاومات صامتة، سواء عبر ممارسات يومية تُعبّر عن هوية ثقافية مغايرة، أو من خلال محاولات أكثر جرأة لإعادة صياغة الخطاب العام. المقاومة هذه ليست بالضرورة عنفًا منظّمًا، بل قد تكون رفضًا صريحًا أو ضمنيًا لأي محاولة لمحو التنوع.
إن ما يجعل السياق السوري معقدًا هو أن المقاومة غالبًا ما تفتقر إلى التماسك التنظيمي، ما يجعلها عرضة للاحتواء أو التفتت. ومع ذلك، يظل فعل المقاومة ضرورة وجودية لمجتمع يرفض الانصهار في بوتقة شمولية تختزل الهوية الوطنية في أبعاد ضيقة. إن التأكيد على التعددية لا ينبغي أن يُنظر إليه كترف، بل كحق جوهري يضمن بقاء التنوع الثقافي والاجتماعي في مواجهة أي مشروع سياسي يسعى لمحو التناقضات لصالح الانسجام القسري.
وبالرغم من أن السيناريو الراهن يوحي بسيطرة شبه مطلقة للشمولية، إلا أن طبيعة المجتمعات، لا سيما تلك التي تحمل إرثًا تاريخيًا من التنوع، تظل عصيّة على الاختزال. قد يتمكن النظام من فرض سرديته بشكل مرحلي، لكن استدامة هذه السردية مرهونة بقدرتها على استيعاب التناقضات الداخلية التي قد تنفجر في لحظة فارقة، لتُعيد تشكيل المشهد بما يتجاوز حدود الخطاب الشمولي.
في النهاية، يكمن التحدي في إعادة بناء الوعي الجمعي السوري على أسس تتجاوز ثنائية الهيمنة والمقاومة التقليدية، نحو صياغة مشروع ثقافي يُمأسس التنوع ويُعيد الاعتبار للحرية بوصفها جوهر المواطنة.