رؤي ومقالات

وحيد عيادة يكتب: شكرًا لباص المدرسة !

صدقوا أو لا تصدقوا، لكنني، وبفضل عملي الذي يتطلب مني قضاء رحلة إجبارية لمدة ساعتين كل صباح في باص المدرسة، أصبحت خبيرًا غير معتمد في علم “الحياة السكنية المعزولة”. نعم، يمكنكم أن تلقبوني بـ”مستكشف الكمباوندات”، أو “كولومبوس الخرسانة”، أو حتى “المسافر عبر الزمن إلى مستقبل بلا حياة”. إذا كنتم تعتقدون أن سجن غوانتانامو هو أسوأ ما يمكن أن تصل إليه البشرية، فهناك “سجن السبع نجوم” الذي يعيشه البعض طواعية داخل تلك المساكن المعزولة!

الحياة داخل هذه الكمباوندات تشبه إلى حد كبير فيلمًا من أفلام الخيال العلمي، لكن بدون الخيال أو العلم. كل شيء هنا مصمم ليبدو مثاليًا، لكنه في الواقع أشبه بمسرحية كوميدية سوداء. حارس الأمن الذي يقف عند البوابة يبدو وكأنه تخرج من دورة تدريبية بعنوان “كيف تكون أكثر شخص مملًا في العالم”. هو لا يبتسم، لا يتكلم، ولا حتى يرمش. فقط يقف هناك، وكأنه تمثال من الشمع وضعوه ليرعب الأطفال.

المفارقة الكبرى هي أنك عندما تمشي داخل الكمباوند، تشعر وكأنك في متحف للحياة المثالية، لكن كل شيء هنا ميت. لا ضحكات أطفال، لا أصوات باعة، ولا حتى صوت أذان من المسجد. فقط صمت مطبق، وكأن الحياة قررت أن تأخذ أجازة طويلة.
في الخارج، الشوارع تعج بالحياة، والأصوات تتداخل كأنها أوركسترا فوضوية. أما هنا، فكل شيء يبدو وكأنهم يروجون لصفحة من كتاب الطبخ يتحدث عن كيفية (كيفية طهي الهدوء ) !؟

سكان الكمباوند يبدون دائمًا في قمة الأناقة و الشياكة لكنهم في الحقيقة أشبه بدمى متحركة في عالم بلا روح. هل هم خائفون من الحياة؟ أم أنهم قرروا أن يعيشوا في فقاعتهم الخاصة، بعيدًا عن ضجيج العالم؟ أو ربما هم في سباق ليفوزوا بلقب “أكثر شخص منعزل في الكون”؟ يبدو أنهم قرروا أن يعيشوا في عالمهم الخاص، حيث الكمان يعزف لحنًا حزينًا، والباقي صامت.

لكن دعونا نكون منصفين، هناك جانب إيجابي واحد في كل هذا: الكمباوند قد يكون سجنًا، لكنه سجن فاخر. هل تريد أن تتجنب الزحام؟ هنا لن تجد زحامًا. هل تريد الهدوء؟ هنا ستجد هدوءًا يكاد يكون مخدرًا. في الواقع، الهدوء هنا مميت لدرجة أنك قد تسمع صوت الحمامة على الشجرة وهي تتثاءب من الملل !

لكنني، بعد ساعتين من التجول في باص المدرسة، بدأت أفكر في كم هو جميل أن أعيش في تلك الفوضى المليئة بالضجيج. الكمباوند قد يكون عالمًا مثاليًا على الورق، لكنه في الحقيقة أشبه بعصفور محبوس في قفص ذهبي. نعم، القفص جميل، لكنه يظل قفصًا.

ربما تكون تلك الساعتين في الباص قد أعطتني تذكرة نادرة لأتجول في سجن السبع نجوم، ثم أخرج لأستمتع بأشياء بسيطة كصوت الباعة، وضحكات الأطفال في الشوارع، عالم مليء بالنبض والحياة. وأخيرًا، سأقولها بصراحة: الحياة ليست مثل الكمباوند، بل هي ساحة الفوضى الجميلة. فلنحتفل بالجمال الذي يأتي مع كل تحدٍ، وأعتقد أنني سأختار الحياة مثل “منتخب جرافيتي” نشط في شوارع القاهرة، بدلاً من سكان كمباوند يبحثون عن الهدوء في سجنهم الذهبي!

لذا، إذا كنتم تفكرون في الانتقال إلى كمباوند، تذكروا: الحياة الحقيقية ليست خلف الجدران العالية، بل في الشوارع المزدحمة، حيث الضجيج هو الموسيقى، والفوضى هي الرقص. وعندما أعود إلى باص المدرسة، أشعر بدفء العلاقات الإنسانية الحقيقية، حيث الأمل لا ينطفئ, وتبقى ضحكات الأطفال و الطلبة وعفويتهم، تمتزج مع تلك الأحاديث الجانبية التي تجري بين المعلمين والطلبة ..

و تبقى رسالة المعلم والتعليم هي رسالة الأنبياء، تحمل الأمل وتعلم القيم، وتضيء الطريق للجيل القادم. شكرًا لباص المدرسة الذي فتح لي أبواب الحياة اليومية المليئة بالمفاجآت واللحظات البسيطة التي تجعل كل يوم يستحق العيش. لذا، سأعود إلى هذا الباص بكل شغف، حيث يكمن سر الحياة الحقيقية بكل تناقضاتها الجميلة !

زر الذهاب إلى الأعلى