رؤي ومقالات

دراسة نقدية للشاعرة والناقدة السورية فاطمة عبدالله

اي دراسة نقدية يجب ان يكون لها محمولها المعرفي وأيضاً الاحالات الباذخة وتنبؤات الاحتمال
والاستاذة فاطمة كانت في القمة في هذا الحضور النقدي الوارف العطاء
شكرا وألف ايتها المعطاءة
.. .
الدراسة :
“غيلان الوطأة”: تراجيديا الكائن في سردية المعنى المتشظي.
يندرج نص “غيلان الوطأة” للأديبة د. مرشدة جاويش ضمن ما يمكن تسميته بـ”السرد الشعري التعبيري”، الذي يتكئ على كثافة لغوية، وتراكيب استعارية، ويشظي المعنى لصالح الانفعال والرمزية. هذا النوع من النصوص يفتح أفقاً تأويلياً واسعاً، حيث تتحول اللغة إلى أداة تفجير للمعنى لا إنتاجه فقط، وتصبح الصورة أداة للمعاناة أكثر من كونها وسيلة للزينة. من هنا تأتي ضرورة قراءة النص بمقاربات نقدية متعددة الأبعاد.
الموضوع والتمثيل الرمزي: يبني النص بنيته على ثيمة الانتهاك الوجودي والاغتراب الإنساني، داخل عالم مأزوم تهيمن عليه قيم الخذلان، والتهميش، واللايقين. تظهر هذه الثيمة منذ السطر الأول: “صرختنا الممتدة المخالب”، وهو تركيب يصور المعاناة بوصفها كائناً متحولاً جارحاً يمتد ويتسع. النص يتابع في استخدامه لمفردات مثل “النفق” و”أنصاب الصدأ”، كرموز مكانية تقترن بالتيه واللاجدوى.
وكما يؤكد غاستون باشلار في كتابه “جماليات المكان”: “الرموز المكانية كالكهوف، والأنفاق، والسقوط، ليست مجرد أمكنة، بل أبعاد نفسية وانفعالية”.
فالنفق الذي “يرقص فوق أنصاب الصدأ” لا يمثل مجرد انتقال مكاني، بل قلقاً داخلياً، وتلاشياً للحلم في بيئة متآكلة.
وهذا التوظيف المكثف لرموز التيه والتآكل الوجودي يقارب ما عبر عنه ت. س. إليوت في قصيدته “الأرض الخراب”
بقوله: “ما هذه الجذور التي تتشبث؟ ما الأغصان التي تنمو من هذا الركام الحجري؟”، حيث تتولد أسئلة الكينونة من أرض يباب، بلا جذور ولا ماء، تماماً كما يولد حلم الإنسان في نص د.مرشدة جاويش من “نفق يرقص فوق أنصاب الصدأ”، في صورة تمثل التحلل الروحي وزيف الحركة.
تفكيك الثنائيات والتوتر الدلالي : تقوم سردية النص على تفكيك مستمر لثنائيات متقابلة تشكل البنية الذهنية للإنسان المعاصر:
الأمل/اليأس
الذات/الآخر
الحرية/الاغتصاب
الفجر/الظلام
هذه الثنائيات لا تطرح بوصفها نقيضات منطقية بل متجاورات متداخلة. تظهر الحرية بوصفها مغتصبة سلفاً، مما يحيل إلى قهر ممأسس، واحتكار لبنية المستقبل. ويستند هذا الطرح إلى قراءة النص بوصفه خطاباً ضد السلطة الرمزية، حيث يتحول الحلم إلى جرم والفرد إلى ضحية.
وفي هذا السياق، يرى رولان بارت في “لذة النص”: “النص الذي يقاوم المعنى يحرر القارئ، ويضعه أمام متاهات التأويل، ويسقط سلطة الخطاب الواحد.”
فالنص لا يقدم نفسه كحكاية قابلة للتتبع، بل كفضاء لغوي متشظٍ، يعيد القارئ إلى ذاته لا إلى المعنى الثابت.
ويستحضر النص هنا تصوراً للذات المفرغة على نحو قريب من وصف إليوت في “الرجال الجوف” ” The Hollow Men” حين قال: “نحن الرجال الجوف، نحن الرجال المحشوون، رؤوسنا مملوءة بالقش”، في تأكيد على أن الكائن لم يعد سوى تمثيل باهت لذاته، مجرد صوتٍ في فراغ سلطوي صلب. إن “غيلان الوطأة” تخلق هذه الهوة بين الذات وصورتها بين الأمل وحقيقته، كما في الثنائيات المتوترة في النص.
البنية الصوتية والصورة الشعرية : يمتاز النص بتركيب صوتي دقيق يشتغل على عدة مستويات:
الاشتقاق الصوتي (ألم/أَلَم – رجاء/غَباء)
التكرار الصوتي الذي يولد إيقاعاً داخلياً
توتر تراكمي متصاعد ناتج عن تداخل الصور وانسيابها
إضافة إلى ذلك، يعتمد النص على صور شعرية متموجة ومتعددة المرجعيات مثل: “دياجير مختلطة”، “طائر القبور”، “الزغاريد المقنعة”، وهي صور تنتمي إلى مناخ تشاؤمي سوداوي، حيث تتحول المأساة إلى بنية نفسية ومجازية.
و يشير أدونيس في “زمن الشعر” إلى هذا النوع من الكتابة بقوله: “القصيدة الجيدة لا تقول الواقع، بل تفضحه، تعريه من زخرف المعنى، وتحوله إلى صرخة ميتافيزيقية.”
وهذا ما يفعله النص، إذ لا يصف المأساة بل يُجسدها لغوياً.
الرمز والمرجع الثقافي يتكئ النص على نظام رمزي متعدد الأبعاد:
البانثيون: معبد الآلهة عند الإغريق يستخدم هنا كرمز لقدسية الألم الجمعي وكناية عن خلود المعاناة في الذاكرة الجمعية.
غيلان الوطأة: صورة أسطورية تحيل إلى الثقل الكابوسي للسلطة/القدر/التاريخ.
الزغاريد المقنعة: صورة تقوض الفرح وتكشف الزيف الاجتماعي المصاحب للخطاب العام.
وهنا يتلاقى النص مع رؤية إليوت في “The Hollow Men” حيث الطقوس تتحول إلى محاكاة ميتة، يقول: “هكذا ينتهي العالم، لا بانفجار، بل بأنين.” وهذا التوازي يبرز كيف أن الزغاريد لم تعد دلالة على الفرح، بل خطاب مموه يخفي انكسار الذات الجمعية في طقس ينتظر الانهيار لا الانفجار.
هذا الاستخدام المكثف للرموز يحيل إلى ما يمكن تسميته بـ”النزعة الأنثروبولوجية” في النص، حيث تتشابك الأسطورة مع الدين، والسياسة مع الطقس، والذات مع الجماعة ضمن سياق سردي يحمل في طياته أبعاداً حضارية وتاريخية.
يمكن القول إن نص “غيلان الوطأة” يجاور نصوص ت. س. إليوت من حيث البنية الرمزية والشعورية. فكلا النصين يعيد صياغة الكارثة بوصفها حالة وجودية، لا حادثاً عارضاً. وكما يقول إليوت في “الأرض الخراب”: “سأريكَ الخوف في قبضة من تراب”، كذلك ترينا د.مرشدة جاويش في هذا النص وجهاً للخوف مختبئاً في مفردات المكان والزمن والطقس حيث تلتبس الحدود بين الواقع والحلم وتتشكل اللغة باعتبارها ضمير الكارثة.
إذاً ، ليست “غيلان الوطأة” مجرد سردية تعبيرية ذات نزعة عاطفية، بل نص شعري/تفكيكي يمارس انقلابه على المعنى ويستنطق الكارثة بوصفها هوية جمالية. الإنسان في هذا النص ليس بطلاً ولا ضحية، بل “كائن مؤجل”، محاصر بالألم، منفي عن الحلم يزحف نحو الخلاص في صحراء من الخيبات. إنه نص لا يُقرأ، بل يفكك ويقاوم لأنه يخاطب عمق الأسئلة الوجودية، لا سطح الإجابات الجاهزة.
إنجاز فاطمة عبدالله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى