حمزة الحسن يكتب : أطفال ليلة الغزو

اذا أردت أن تلغي شعباً، تبدأ أولا بشلّ ذاكرته، ثم تلغي كتبه و ثقافاته و تاريخه، ثم يكتب له طرف آخر كتبا أخرى و يعطيه ثقافة أخرى و يخترع له تاريخاً آخر، عندها ينسى هذا الشعب من كان وماذا كان وينساه العالم أيضا *كوردال هيل سياسي ومؤرخ.
من السهل أن نطلب من شعب مسروق وجائع وخائف
ومهان ومُحقّر، أن يكون عاقلاً وحكيماً بعد عقود من التآكل الجسدي والنفسي والاقتصادي والسياسي وانت ماشي.
كيف يمكن الطلب من شبه أو بقايا إنسان سُلخ من ذاته وبتر نموه العقلي والروحي،
وجُرّد من هويته الفردية وهويته الوطنية ومن تاريخه ومن ثقافته ومن ذاته ومن أرضه التي فقد السيطرة عليها كمصيره وزعزعة كل الأسس التي يقف فوقها الإنسان،
وصار يشعر بالاغتراب داخل بلده، أن يحافظ على ” الممتلكات العامة” للدولة،
اذا كان هو نفسه لم يعد يشعر بالانتماء لنفسه ولممتلكاته الجسدية التي تحولت الى أدوات خارج سيطرته بما في ذلك أحلامه؟
لا نبرر تخريب أي ملكية عامة اذا كان هناك حقاً ما لم يخرب بعد،
من المدن الى النفوس ومن الثقافة الى التاريخ ومن الحدائق الى الدين والاقتصاد والضمير،
لكن نحاول فقط أن نفهم مشاعر هؤلاء.
دول تطرفت في الليبرالية والحقوق الفردية، تتساهل مع لص سرق طعاما ولا يملك نقودا ومع مجرم وقع تحت تأثير فوق طاقة البشر واستهلك قواه في صراع طويل،
وهي طاقة ليست مطلقة خاصة من تعرض لانهاك منظم ووجد نفسه في ” مناخ الخطأ” كما يجد الانسان نفسه في منجم فحم ولا يخرج بلا بقع سود أو في بركة وحل ويخرج نظيفاً أو وجد نفسه مداهماً بسلاح وهو غافل سوى الدفاع عن نفسه.
شبه المواطن تعرض لتعذيب وانهاك وتحقير واذلال وخيانة عبر عقود من الزمن،
وهو يحتاج الى علاج طويل قبل حاجته أشياء أخرى وخلال حصار التسعينات زار صحافي ألماني العراق وكتب يقول إن هذا الشعب يحتاج الى علاج نفسي قبل حاجته الى طعام. حتى الاشجار والحيوانات والحشرات تمرض وتموت في بيئة خانقة غير مناسبة.
كيف ” يتوازن” انسان بلا حاضر ولا مستقبل ولا ضمانات جدية في السكن والصحة والشيخوخة والأمن ويبقى” عاقلاً” في شبكة نظام مختل تدفعه الى الجنون والتعثر بكل حجرة طريق وعمود كهرباء وباب ؟
يمكن التحذلق والتقعر والتمشدق والطلب من هذا الانسان المستباح ان يتصرف بحكمة ومنطق وعقل لكن أين هي الحكمة والمنطق والعقل في هذا الاختلال العام الخطير؟
كيف يمكن اشعال النار في انسان والطلب منه ان يحافظ على توازنه في نظام عام فقد كل أشكال التوازن؟
شهد العراق مثلاً انقلابات الستينات التي كانت تغير المناهج والصور والشعارات كل عام أو عامين ومعها تتغير المقاييس والمعايير، فكيف يستقر الانسان ما لم تكن هناك ثوابت في حياته تتغير مع الزمن بشكل متدرج،
من غير حروب وارهاب الدكتاتور والاحتلال وسلطة فاسدة مرتهنة وبلد مستباح علناً ويباع بالمزاد كثروة وحدود وموانئ؟
لا يتوازن الانسان على الحكم والنصائح وحدها ما لم يُشبع حاجاته الأساسية في الاحترام الذاتي والتقدير العام ودوافعه العميقة المشروعة.
في احداث أو تظاهرات تشرين 2019 العراقية أو الاحتجاجات التي اندلعت في 1 تشرين الأول سنة 2019، في بغداد وبقية محافظات جنوب العراق ــــــــــ وخلفت آلاف القتلى والجرحى ــــــــــ احتجاجاً على تردّي الأوضاع الاقتصادية للبلد، وانتشار الفساد المالي الإداري والبطالة كانت الاغلبية من المتظاهرين في أعمار تقل عن العشرين سنة،
وبعضهم كانوا رضّعاً سنة الاحتلال، أو” أطفال ليلة الغزو”
وبعضهم ولد بعده وهؤلاء لا يمكن خداعهم كما تمت خديعة الآباء
عبر عقود من التخويف والزجر يوم كانت الأجيال السابقة تقتل في السجون تحت الأحذية بلا مشروع ثورة أو في الحروب أو الصمت المعذب.
صحيح ان هؤلاء نزلوا للشوارع بلا فكرة عن تاريخ جديد سيبزغ ولا قصة حياة مختلفة ستولد، لكنه الغضب المتراكم حتى لو تداخلت الأسباب والتفسيرات بين مشكك ومؤيد ورافض وصامت ومحايد في الظاهر.
بعض هؤلاء صار مثل كائن أعمى مُستفز وعدواني لا يعرف في أي اتجاه يهاجم لأنه لا يعرف في الأصل مصدر هذا الدمار المتعدد الذي يسكنه من الداخل والخارج،
لأنه يشعر أن كابوساً ما في مكان ما عليه أن يتحطم مع يقين دقيق أن أغلبية هؤلاء بل أغامر في القول أنهم جميعاً يمتلكون الأسلحة الخفيفة والمتوسطة ـــــ فتح المحتل مخازن السلاح عند سقوط بغداد وسُرقت أكثر من 50 مليون قطعة سلاح في دعوة شريرة خفية لانتحار جماعي في بلد مشحون بالضغائن والتناقضات والاحقاد وتظهر هذه الاسلحة اليوم حتى في المشاجرات الشخصية والعشائرية في بلد تحول الى ثكنة مع البطالة وانغلاق الأفق والمخدرات وعزوف عن التعليم وأطفال الشوارع في ابادة منظمة لجيل مع الشحن المستمر للحساسيات النائمة وتدخلات الخارج وكل عوامل التفجير الاخرى وعود ثقاب قد يشعل حريقا في بلد لا يمضي في سياق ومنطق وتسلسل وقوانين وقد تلعب الحماقات والنزوات الفردية والصدف والأوهام في إشعال حريق.
وقد نرى يوماً هذا الحريق ما لم تضع شبه السلطة وطبقتها
الفاسدة حداً لهذا الاستهتار الخليع وليس من الواضح انها ستفعل ذلك لان النظام نفسه في مأزق بنيوي خانق.
كان بعضهم يهاجم النوافذ أو الزجاج أو المكيفات بل وحتى الحيطان وكل ما يراه أو لا يراه وهذه نتيجة سنوات الاذلال التي خلقت المواطن الذئب.
الطبقة الفاسدة مسؤولة بصورة تامة عن خلق هذا الكائن الذي توقعنا يوماً انه سيلتهم نفسه و يلتهم الجميع، واذا كانت السلطة تتباكى على كسر نوافذها وحرق مقراتها، فعليها أن تعرف، في النهاية، أن من يربي ذئاباً جائعة ستأكله يوماً لأن هذا” الخنق” والاذلال لهذا الانسان لن يمر بسلام والنظام يضعه بين خيارين ويحفر قبره بيده: إما أن يمرض ويجن أو ينفجر.