رؤي ومقالات

يسري فوده يكتب :”جريمة” انتحار في الدقي

صباح 2 يوليو 1822، خرجت صحيفة “ذا كوريير” البريطانية بهذا العنوان: “غرق الشاعر الكافر شيلي. الآن يعلم إن كان هناك إله أم لا”.
في اليوم السابق، كان الشاعر بيرسي شيلي على موعد في الريفييرا الإيطالية مع صديقه الشاعر، زميله في حركة الشعر الرومانسي الإنغليزية، اللورد بايرون، لمناقشة إصدار صحيفة جديدة.
بعد اللقاء ركب قاربه الصغير، “دون چوان”، مع اثنين من أصدقائه، في طريق العودة من ليڤورنو إلى ليريتشي، عندما هبت عاصفة أغرقت القارب وأودت بهم جميعًا.
مرت عشرة أيام قبل أن يجرف التيار جثته المتحللة إلى الشاطئ حيث تم التعرف على صاحبها من أوراق كانت في جيب سترته. حُرقت جثته ودُفن رمادها في مقابر البروتستانت في روما. على لوحة القبر نُقش باللاتينية: “قلب القلوب”.
بعد ذلك بنحو 135 عامًا سيُدفن حول جذع شجرة قريبة منه رماد جثة رجل آخر حُملت من القاهرة. رغم أن جيب سترته احتوى على أوراق دالّة، لم تكن هوية صاحبها في البداية معروفة للعامة الذين شهدوا موته قبل أن يصل بلاغ إلى قسم شرطة قصر النيل. وصل الخبر فورًا إلى الرئيس المصري جمال عبد الناصر فانكب مع مخابراته والنائب العام، المستشار عبد الرحيم غنيم، مدققًا في ملابسات موت رجل كان يكن له كثيرًا من الاحترام والتقدير.
كان هذا هربرت نورمان، سفير كندا في القاهرة التي وصل إليها قبل شهور قليلة في خضم أزمة السويس فوجد نفسه في أتونها. في شارع هادئ في حي جاردن سيتي، في مكان ما بين فيلا هدى شعراوي وفيلا ليلى مراد، استأجرت السفارة الكندية فيلا صغيرة أنيقة له ولزوجته.
وفي حوالي التاسعة والنصف صباح يوم الخميس 4 أبريل 1957، قاده سائقه الشخصي “كوستا” في رحلة قصيرة لم تتجاوز 10 دقائق من منزله عبر كوبري قصر النيل إلى عنوان بعينه في حي الدقي. طلب من “كوستا” أن ينتظره بعيدًا على الجانب الآخر من محطة بنزين “شل”، وأكمل هو مشواره على قدميه نحو عمارة وادي النيل في شارع فيني (السد العالي لاحقًا) حيث يسكن صديقه برينولف إنغ، سفير السويد في القاهرة.
لكن نورمان لم يأت إلى هنا لرؤية صديقه، بل أتى إلى موقع محدد كان قد عاينه قبل أن يختاره مسرحًا للحظاته الأخيرة في عالم لم يعد يتحمل آلامه. استقل المصعد حتى الطابق الثامن، الطابق الأخير، وأكمل درجات السلم على قدميه نحو السطح.
اقترب من السور المطل على شارع قليل الحركة كي لا يؤذي أحدًا. خلع سترته بعد أن خلع ساعته الذهبية ووضعها في أحد جيوبها.
في الجانب الآخر من السطح، كانت “شغالة” عمرها 16 عامًا منهمكة في تنظيف سجادة متربة عندما بدأ ينتابها القلق. صرخت في اتجاهه: “خلي بالك يا بيه”، لكن ذهنه الآن كان في منطقة أخرى وهو لايزال يستجمع قواه نحو إرادة الفعل الأخير. استغرقه الأمر نحو 7 دقائق، أثناءها كان لفيف من المارة قد تحلقوا تحته في الشارع وهم يهتفون به: “ارجع يا حضرة .. خلي بالك .. وحّد الله يا خواجة”.
لا بد أن محطات بعينها من حياته الحافلة الدؤوب النقية قد ارتسمت في مخيلته أشباحًا متسارعةً في تلك الثواني المعدودة قبل أن يرتطم جسده بسطح سيارة صديقه السفير السويدي قبل أن يستريح على الأرض وسط صيحات المارة وآهاتهم وتكبيراتهم. حتى في موته سدد جسده بدقة نحو سطح سيارة كي يجنب المارة أذاه.
تولى وكيل نيابة قصر النيل، صادق المهدي، التحقيقات الأولية، فأمر بنقله إلى مستشفى الدكتور علي إبراهيم القريب من موقع الحدث. وبالنظر إلى وفرة شهود العيان، وإلى خصوصيته الشخصية، قررت النيابة عدم إجراء تشريح طبي شرعي للجثة.
كان هناك سبب آخر أقوى أضيف إلى حيثيات هذا القرار؛ فوفقًا لجريدة الأهرام في عددها الصادر صباح اليوم التالي، عُثر في جيب سترته على محفظة بها 50 قرشًا ورسالتا وداع، إحداهما لزوجته والأخرى لصديقه السفير السويدي، كُتبتا – كما بدا – على عجل بخط متوتر وأفكار بعضها غير مترابط.
عجت مصر وقتها بمختلف أنواع التحليلات، المنطقي منها وغير المنطقي، وبكثير من الإشاعات التي وقودها دائمًا نقص المعلومات وغياب الشفافية. امتد الأمر إلى النخبة السياسية والمثقفين ودوائر السلك الدبلوماسي. على حد ما قاله صحفي أمريكي لنائب نورمان في السفارة الكندية، كان أهم ثلاثة سفراء في القاهرة وقتها من وجهة نظر عبد الناصر السفير الأمريكي والسفير الهندي والسفير الكندي.
زادت أهمية هذ الأخير بالنظر إلى اكتسابه ثقة الرئيس فور اعتماد أوراقه في سبتمبر 1956؛ إذ كان صادقًا في وقوفه إلى جانب مصر أثناء أزمة السويس والعدوان الثلاثي. كما كان صادقًا في توجيه اللوم إلى الإس٠رIئ-يليين وقد أخذوا يتلكأون بعد ذلك في الجلاء عن غز٥ وعن شرم الشيخ وعن مواقع أخرى في سيناء. البعد الزمني من وقتها حتى الآن ربما يجعل البعض يظن أن مصر انتصرت بعد أيام معدودة من العدوان الثلاثي أوئل نوفمبر 1956 وانتهى الأمر. دون النصر السياسي، كان الأمر على أرض الواقع أبعد ما يكون عن ذلك.
عندئذ تقدم وزير الخارجية الكندي، ليستر بيرسون بفكرة لإنشاء أول قوة دولية لحفظ السلام في تاريخ العالم الحديث، حملت اسم “قوات الطوارئ التابعة للأمم المتحدة” UNEF. تحمس الأمين العام، داغ همرشولد واعتمدها مجلس الأمن ووقع جانب كبير من مهمة تنفيذها على أرض الواقع على كاهل سفير كندا الجديد في القاهرة، هربرت نورمان. كلما تعقدت الأمور كانت ثقة عبد الناصر به تعبر فوق الخلاف. حصل وزير الخارجية الكندي لاحقًا عن هذه الفكرة المبتكرة على جائزة نوبل للسلام، بينما انتحر نورمان.
من ناحيتها، كانت هذه نوعية العناوين التي سيطرت على الصحف الكندية صبيحة الانتحار: “قتل مع سبق الإصرار والتعمد”، “قتل عن طريق القذف”، “إدانة عن طريق التلميح”، “عار أمريكا”.
كانت الصحف الكندية بهذا تعكس رأيًا عامًا شعبيًا وسياسيًا – وشخصيًا لدى نورمان ومن عرفوه – تجاه اللجنة المكارثية، وأطراف أخرى في أمريكا، التي تملكها الهوس تجاه الرجل في ذروة “الفزع الأحمر” من الشيوعية، ففتحت ملفه مرة أخرى قبل انتحاره بأسابيع قليلة. لماذا فتحته الآن مرةً أخرى رغم تبرئة ساحته قبل ذلك في عام 1951؟ كانت الاتهامات فظيعة مقلقة هادمة لرجل في مكانته، تعدى بعضها مجرد الانتماء للفكر اليساري أو الشيوعي إلى إثارة التلميحات بأنه عميل لحساب الاتحاد السوفييتي وجاسوس.
على قدر بشاعتها وشناعتها، كان في الطريقة التي اختار أن يموت بها خلاص واضح مما أطبق على روحه في تلك الأسابيع القليلة السوداء. لم يكن هذا سرًا؛ فقد لاحظه من كانوا حوله في البيت وفي السفارة وبين الأصدقاء وسجله علميًا طبيبه النفسي المصري د. حليم دوس.
هذا نوع من أنواع القتل العمد، ورغم أن أحدًا لم يعترف به، ناهيك عن تحمل المسؤولية، فإن مفتاح الوصول إلى القاتل يكمن في الإجابة على هذه الأسئلة: من اتخذ قرار إعادة فتح الملف؟ لماذا الآن؟ وللوصول إلى أي غاية؟
لكن هربرت نورمان كان يعلم في أي عالمٍ يعيش. في رسالته الأخيرة إلى صديقه كتب هذه الكلمات: “كنت أظن أن البراءة وحدها تكفي”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى