حمزه الحسن يكتب : خارج الحسابات الصغيرة

«نحن لا نتعود يا أبي إلا إذا مات شيء فينا، وتصور حجم ما مات فينا حتى تعودنا على كل ما حولنا» ــــــــــــ ممدوح عدوان.
ماذا يفعل الانسان الاعزل اليوم في غابات الاسلحة والضغائن والقبائل والحروب والعقول المحاربة؟
ماذا يفعل طائر وجد عشه مخربا غير رفيف الاجنحة والذهول لان الطائر ما كان ليبني عشه لو لم يكن واثقا من الحياة بتعبير غاستون باشلار؟.
العقل المحارب لا ينتج معرفة بل يقوم على فرضية الصح والخطأ ـــــــــــ مع أو ضد ــــــــ وحتى هذه الفرضية تصدر من انحيازات مسبقة في حين المعرفة اكتشاف دروب بعقل صاف مستعد لتبديل القناعات. المعرفة تراكم ثقافة بالاختلاف وليست نطح قرون.
لا نتحدث عن مسلح صاحب قضية عادلة كالأرض والحرية والعدالة والمصير بل عن مسلح مشحون بالكراهية والتطرف ونزعة العدوان وشهوة الانتقام التي لا ترتوي او تشبع: هاوية مفتوحة للموت .
وجود الانسان الأعزل في هذا الاشتباك كوجود طفل في حلقة ذئاب وفي أي صراع لن يكون رابحاً لأنها ليست ساحته وليس هدفه فكرة الانتصار في أي معركة بل فكرة صنع المصير ولو خرج مضرجا بالجراح المضيئة لانها أوسمة نبل مشعة على أنه لم يستسلم ولم يخضع للحسابات الصغيرة عن الخسارة والربح ولا من المنتصر ومن المهزوم لان الانسان الأعزل لديه معاييره الخاصة: ليس من المعقول ان تدخل في منجم فحم او في وحل وتخرج بلا بقع او في صراع مع ذئب بلا آثار مخالب. هذه الاثار، الندوب، علامات مضيئة.
من الغباء المفرط توقع ردود الأعزل على أفعال حسب توقعات الاخرين لأن هؤلاء يتوقعون انطلاقا من تجارب مختلفة ومع نماذج تقليدية مسطحة. ردود الاعزل من نظام تفكير مختلف يخضع لعوامل نفسية وثقافية تكون صادمة في حال تعرضه للاساءات العميقة وفي زمن غير متوقع وحسابات لا تخطر بالبال. التعامل مع الأحمق على أنه غير موجود وهو فعلا غير موجود في نظر نفسه لانه تجمع اوهام وذات مزيفة حتى تأتي لحظة نزول المقصلة.
ألم يقل العرب القدامى الحكماء” إتق شر الحليم إذا غضب” والحليم ليس شريراً لكن يفجر طاقة الغضب النائمة فيه لمواجهة شر وهذه الطاقة لا تستعمل إلا في حالات خاصة ومجمدة؟. وهو ما اكتشفه علماء النفس عن الشخصية البريئة المتعاطفة عندما تتعرض للاهانة والتلاعب والاستغلال عندما تطلق طاقة الغضب.
هناك نصر يختزن هزيمة أخلاقية وهناك فشل يختزن انتصاراً أخلاقياً لعدم تكافؤ القوى وقسوة الظروف ومجرد دخول المعركة هو انتصار بصرف النظر عن النتائج. حساب النتائج في معارك الحرية والمصير والكرامة الانسانية هي حسابات بقال.
رغم ذلك الأعزل فضيحة المسلح، سواء كان مسلحاً بالمال أو السلطة أو الأتباع أو الأوهام الصلبة. لماذا الأعزل فضيحة المسلح؟
الأعزل ليس المجرد من القوة، بل المجرد من الدناءة، قوة الأعزل في أعماقه وولد من رحم تجارب وثقافات ومبادئ مختلفة،
وقوة المسلح في السلاح وفي الاتباع لأنه مسخ ولد من رحم جماعة ومن تجارب مشوهة وعقل مختل ومنحرف.
الأعزل يتيم في حفل التشابه والتناسخ والأقنعة، والمسلح يزدهر في التطابق والمديح والاشباه لانه كتلة في جماعة او برغي في عجلة ضخمة.
المسلح قناع في حفل تنكري مزمن وليس في حياة، والأعزل وجه حقيقي في حفل اطفال ، المسلح يحول البشر الى أشياء لكي يسهل العدوان عليهم، بالسلاح أو الخسة، والأعزل يحول الأشياء الى جمال:
المسلح وعاء فارغ وعقل مستقيل يملى عليه لانه ببغاء ملقن و” الأحمق يعرف كل شيء عن أي شيء” وهو لا يعرف من هو، في حين الاعزل عقل حر ومفتوح كسهل ابيض طليق والحقيقة عنده اكتشاف وتجارب واقتراب.
لا يتواجد أعزل ومسلح في مكان واحد، لا يتواجد الظلام والنور في مكان واحد، كما لا يتواجد طفل وضبع في قفص ، النشيج ليس الضجيج ولهب شمعة غير الحريق.
يحترق المسلح ـــــــــــــ المسلح بالسلاح أو الدناءات أو الاتباع ــــ يوماً لكن الأعزل يضيء.
يشرق الأعزل في وجود نظيف ونقي ويطفيء المسلح كل ضوء ولا يزدهر الا بين الانقاض والحيل والدسائس والجيف،
محكوم عليه الموت في الحياة ومحكوم على الأعزل الحياة بعد الموت. هناك بشر ولدوا بعد الموت وبشر ماتوا في الحياة.
المسلح حيوان في حالة قنص بالسلاح او المخالب او الفخاخ ، والأعزل انسان في حالة قنص للجميل والممتع والاستثنائي ، متعة المسلح في أوجاع الضحية، ومتعة الأعزل في فرح الناس، في شفق متوهج أو عربة أطفال أو عائلة تجلس بهناءة في حديقة.
المسلح عالمه مكتمل وجاهز في قوالب وهو يدخل فيه كمعطف ابدي،
كملابس في دمية عرض في متجر، وعالم الأعزل خلق وتشكل واكتشاف.
سرور المسلح بين الانقاض والجثث والحسابات الصغيرة وأنين ضحاياه،
لا شيء في داخله يستمد طاقة الحياة منه، ليس غير الغبار والشحوب والخواء والخطط المستنزفة ومعارك الصغار،
فراغ وجحيم وعطب داخلي يحاول التعويض عنه بصيد الضحايا،
علاقته بالناس كالعلاقة مع محطة وقود، ينتقل عند الفراغ من محطة الى أخرى. هو فراغ لا يمتلئ.
الاعزل إمتلاء دائم وطاقة الحياة فيه، سعادة المسلح في أحزان وأوجاع الناس، وفرح الأعزل بسعادتهم. المسلح مشروع مقبرة والأعزل مشروع حديقة.
ينهار المسلح ويتوسل ويستغيث لو وجد نفسه وحيداً أو عارياً أو مكشوفاً في أي معركة أو مواجهة أو صراع لأن قوته وشراسته ومكره وحيله في الجماعة وفي الاطراء والمديح والاقنعة والتخفي وليست فيه، في حين يشرق الأعزل في الصراع وحيداً لأن قوته في داخله بلا عكاكيز ومساند ومتكئات من الخارج لأن قوته فيه ولا يتردد في عبور الاهوال في حين يخاف المسلح عبور ساقية وحيداً.
المسلح تاريخ عفن والأعزل مستقبل كامن في الجذور وكحبة قمح في التراب او جيب فلاح تصبح حقل سنابل،
يشرق الأعزل في حديقة ويشرق المسلح في ثلاجة موتى وفي صناعة الافخاخ،
المسلح جبان يبحث عن استعراض وانتصارات خارجه وعن ضحايا عزل، الأعزل لا يحتاج الى إستعراض لأن النور الداخلي يشع على وجهه كوجه رضيع نائم وحتى في البرد يتدثر بتاريخه كما لو في صيف متألق.
في رواية” الجنرال” آلان سيليتو يقع قائد فرقة موسيقية في الأسر، ويدور حوار بينه وبين الجنرال الآسر الذي يسأل الموسيقار عن جدوى الموسيقى،
ويرد عليه الموسيقار عن ما جدوى الحرب؟
لماذا أنت تعزف هنا؟
يرد عليه الآخر ولماذا أنت تقصف هنا؟
يصرخ الجنرال:
” ما جدوى الموسيقى؟”
” لكن ما جدوى الحرب؟”
كلاهما من عالم ولغة وذات ومبادئ مختلفة ومتناقضة وتجسيد حقيقي لعلاقة الاعزل بالمسلح:
الموسيقار معبأ بالضوء والجمال والأمل حتى في قبضة الوحش،
والجنرال معبأ بالظلام والقبح والجنون في قمة سلطته. قد يكون الجنرال قد قبض على الموسيقار،
لكن كل جنرالات العالم وأسلحتهم لن تقبض على الموسيقى، الحياة، حلم نظيف:
في الحقيقة الجنرال من وقع في الأسر، أسر داخلي لا خروج منه.
إنتصار الجنرال العابر والمؤقت هزيمة الانسان فيه، وأسر الموسيقار إنتصار الحياة فيه لانه ذهب مع قضيته الى النهاية بلا حسابات صغيرة عابرة،
لذلك قال الموسيقار اليوناني ثيودورايكس ملحن موسيقى زوربا والنشيد الوطني الفلسطيني من سجنه في جزيرة محاطة بالاسلاك الشائكة وسط البحر في كتابه السيروي: يوميات المقاومة في اليونان:
” أنتم لديكم دبابات ونحن لدينا أغاني وكل دباباتكم لن تقتل أغنية واحدة”