
الكوميديا الشيطانية: ملهاة الجحيم وسخرية الأبد
في قلب العدم الفسيح، حيث تلتهم النيرانُ ذاتها ولا تنطفئ، وحيثُ الجحيمُ ليس عقوبةً بل ملهى، يتراقص الشياطينُ على إيقاعِ الفناء، يشربونَ من كؤوسِ الغوايةِ المترعةِ بالشعرِ والفكرِ المسفوكِ من ألسنةِ الفلاسفةِ والأنبياءِ المعزولين في دوائرِ الشكّ الأبدي. هنا، لا سقفٌ للمعنى، لا حدٌّ للجنون، حفلةٌ كونيةٌ تمتدُّ بين المجرّات، حيثُ الضحكُ مقدّس، والسخريةُ هي لغةُ النجاة الوحيدة.
(1) الضحكة الأولى: حين ينكسر الضوءُ في مرآة الظلام
تتدلّى الشموسُ كقناديلَ مذبوحةٍ فوق أفقِ النار، تتعرّقُ الكواكبُ وهي تتلوى تحت وطأةِ الانهيار، تتفتّتُ المذنّباتُ إلى شظايا أحرفٍ لم تُكتب بعد. في زاويةٍ بعيدةٍ من سديمِ الفوضى، يُقامُ مجلسُ الخاسرين العظماء، أولئك الذين أحرقتهم النبوءات، ونفاهم الإلهُ إلى حضيضِ فكرهم.
عند الطاولةِ المصنوعةِ من رمادِ الأزمنة، يجلسُ أريستوفان ينفثُ ضحكاتِه الساخرة فوقَ رأسِ دانتي، بينما يمسحُ نيتشه غبارَ الأبديةِ عن شاربِه المتهدّل، ويهمسُ لجوقةِ الضائعين: لقد قتلنا الإله، ولكن من يقتل الجحيم؟
ماركيز دي ساد يقهقه، يرفعُ كأسهُ مترعًا بخطيئةٍ مخمّرة، يتمايلُ فوق الطاولةِ كراقصٍ مخمورٍ بسحرِ اللعنة، يقول: هذه الجنةُ التي حُرمناها، جحيمٌ يليقُ بالأحياء.
في الزاويةِ الأخرى، حيث الضوءُ يتكسّرُ في مرايا الوهم، يحدّق كافكا في انعكاسِه المشوّهِ على سطحِ نهرِ الأسئلة، يقلبُ دفترًا لم تكتمل سطورهُ الأخيرة، ويتمتمُ بصوتٍ مثقلٍ باليأس: كأننا لم نولد إلا لنحيا في روايةٍ لا مؤلفَ لها.
(2) رقصةُ الشياطين: حين تُعزف السيمفونية الأخيرة
في عمق الجحيم، حيث تدورُ المجرّاتُ المعطوبة، يُنصَبُ مسرحٌ أبديٌّ يعتليهِ شيطانٌ بعينٍ واحدةٍ ولسانٍ يشطرُ الكلماتِ نصفين، نصفًا للحقيقة ونصفًا للسخرية. يمسكُ بعصا الزمن، يلوّحُ بها كقائدِ أوركسترا يُديرُ الضياعَ العظيم، ويطلقُ سيمفونيةَ اللاعودة.
تتصاعدُ الألحانُ من أنينِ الفلاسفةِ الذين أكلهمُ الشكُّ حتى نخاعِ أرواحهم، من نحيبِ الأباطرةِ الذين انهارت عروشهمْ فوق جماجمِ أحلامهم، من شهقاتِ الآلهةِ المهجورةِ التي لم يعد يؤمنُ بها أحدٌ سوى صدى الأبدية.
يرقصُ الشياطينُ في دوائرَ لا تنتهي، تندفعُ أرواحُ التائهينَ في دورانٍ عبثيّ، تعلو الضحكاتُ كما تعلو النيرانُ، لا شيء يحترقُ سوى الوهم، لا شيء يُبعثُ سوى السراب.
(3) المأدبةُ الأخيرة: حين يكتمل العبثُ بالخلود
في النهايةِ التي ليست نهاية، يُرفعُ الستارُ عن وليمةٍ لم تُقدَّم إلا لمن لفظتْه السماءُ وابتلعهُ الجحيمُ بشهيةٍ مفتوحة. الأرواحُ تجتمعُ حول مائدةٍ من لهيب، يتناولونَ الفكرةَ كما يتناولونَ الخطيئة، يشربونَ الحقيقةَ حتى تثملَ عقولهم، يترنّحون في سُكرٍ أبديّ، يسقطونَ في الفراغِ وهم يضحكون، كأنهم أخيرًا أدركوا أن الجحيمَ لم يكن سوى مزحةٍ كونيةٍ لم يفهمها البشرُ بعد.
إبليس يبتسم على عرشِ الفوضى، يصفّقُ بيديه، يهمسُ للنجومِ المنطفئة: أيها العابرونَ في مسرحِ الأبد، لقد كانت الحياةُ مجرد نكتة، لكنّكم أخذتموها على محملِ الجد.
يضجُّ الفراغُ بالضحك، ويشتعلُ الجحيم بالتصفيق.