رؤي ومقالات

د.محمد إبراهيم العشماوي يكتب :مسألتان في عاشوراء!

المسألة الأولى:
في معنى قوله صلى الله عليه وسلم:”لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع”، فمات قبل ذلك”.
هذا الحديث من أفراد مسلم عن البخاري، رواه مسلم في [صحيحه]، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهو ظاهر في أنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم العاشر، وهمَّ بصوم التاسع، فمات قبل ذلك، ثم ما همَّ به من صوم التاسع؛ يحتمل معناه أنه لا يقتصر عليه، بل يضيفه إلى اليوم العاشر، إما احتياطا له، وإما مخالفة لليهود والنصارى، وهو الأرجح، وبه يُشعر بعض روايات مسلم، ولأحمد من وجه آخر، عن ابن عباس، مرفوعا: “صوموا يوم عاشوراء، وخالفوا اليهود، صوموا يوما قبله، أو يوما بعده”، وهذا كان في آخر الأمر، وقد كان صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب، فيما لم يؤمر فيه بشيء، ولا سيما إذا كان فيما يخالف فيه أهل الأوثان، فلما فتحت مكة، واشتهر أمر الإسلام؛ أحب مخالفة أهل الكتاب أيضا، كما ثبت في [الصحيح]، فهذا من ذلك، فوافقهم أولا، وقال: “نحن أحق بموسى منكم”، ثم أحب مخالفتهم، فأمر بأن يضاف إليه يوم قبله، ويوم بعده، خلافا لهم.
وقال بعض أهل العلم: قوله صلى الله عليه وسلم في [صحيح مسلم]: “لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع”؛ يحتمل أمرين:
أحدهما: أنه أراد نقل العاشر إلى التاسع.
والثاني: أراد أن يضيفه إليه في الصوم.
فلما تُوفي صلى الله عليه وسلم قبل بيان ذلك؛ كان الاحتياط صوم اليومين!
وعلى هذا، فصيام عاشوراء على ثلاث مراتب:
أدناها: أن يصام وحده.
وفوقه: أن يصام التاسع معه.
وفوقه: أن يصام التاسع والحادي عشر، والله أعلم. انتهى بتصرف من [فتح الباري].
وفيه: دليل على استحباب مخالفة أهل الكتاب، وأن الأصل هو مخالفتهم، وأن الموافقة كانت في أول الأمر استئلافا لهم، لا سيما فيما لم ينزل عليه فيه وحي؛ لأنهم أهل كتاب سماوي، فلما اشتهر أمر الإسلام وقوي؛ خالفهم، وأمر بمخالفتهم!
وأن ذلك كان سبب همِّه صلى الله عليه وسلم آخر الأمر بصيام التاسع – قيل: بديلا عن العاشر، مخالفة لهم في التوقيت، وقيل: بل مع العاشر، مخالفة لهم في الإفراد!
فلما توفي صلى الله عليه وسلم قبل بيان مراده؛ حمله العلماء على أحوط الوجهين، وهو الجمع بين اليومين.
هكذا زعم بعض أهل العلم، وليس كما زعم؛ فإنه صلى الله عليه وسلم قد بيَّن مراده فيما رواه أحمد وغيره: “خالفوا اليهود، صوموا يوما قبله، أو يوما بعده”.
فإنه واضح الدلالة في أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يضم التاسع إلى العاشر، لا أن يجعله بديلا عنه!
وهو أيضا تشريع لصيام التاسع والحادي عشر بالسنة القولية، ولعله كان قبل تصريحه صلى الله عليه وسلم، بهمِّه بصيام التاسع، إن أحياه الله إلى العام القابل، فتوفاه الله، وهمُّه صلى الله عليه وسلم أيضا بمنزلة التشريع!
المسألة الثانية:
هل صام النبي صلى الله عليه وسلم عاشوراء موافقة لأهل الكتاب، أم كان يصومه قبل ذلك؟
قال الحافظ في [الفتح] ما حاصله: ليس في الحديث ما يدل على أنه أول صيام له لعاشوراء، موافقة لليهود، بل في حديث السيدة عائشة رضي الله عنها التصريح بأنه كان يصومه قبل ذلك، فغاية ما في القصة أنه لم يَحْدث له – بقول اليهود – تجديدُ حكمٍ، وإنما هي صفة حال، وجواب سؤال، ولم تختلف الروايات عن ابن عباس في ذلك، ولا مخالفة بينه وبين حديث عائشة: “إن أهل الجاهلية كانوا يصومونه”؛ إذ لا مانع من توارد الفريقين – اليهود والمشركين – على صيامه، مع اختلاف السبب في ذلك، قال القرطبي في [المفهم لتلخيص ما أشكل من كتاب مسلم]: “لعل قريشا كانوا يستندون في صومه إلى شرع من مضى كإبراهيم، وصوم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يحتمل أن يكون بحكم الموافقة لهم، كما في الحج، أو أذن الله له في صيامه على أنه فعل خير، فلما هاجر، ووجد اليهود يصومونه، وسألهم، وصامه، وأمر بصيامه؛ احتمل ذلك أن يكون ذلك استئلافا لليهود، كما استألفهم باستقبال قبلتهم، ويحتمل غير ذلك.
وعلى كل حال، فلم يصمه صلى الله عليه وسلم اقتداء بهما – أي باليهود والمشركين – فإنه كان يصومه قبل ذلك، وكان ذلك في الوقت الذي يحب فيه موافقة أهل الكتاب فيما لم يُنْه عنه. انتهى.
قال النووي في [شرح مسلم]: “ومختصر ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يصومه كما تصومه قريش في مكة، ثم قدم المدينة، فوجد اليهود يصومونه، فصامه أيضا بوحي، أو تواتر، أو اجتهاد، لا بمجرد أخبار آحادهم. والله أعلم”.
وقال الحافظ أيضا في المراد بقوله: “يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر به”: “إذا لم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم شيء؛ كان يعمل فيه بموافقة أهل الكتاب؛ لأنهم أصحاب شرع، بخلاف عبدة الأوثان؛ فإنهم ليسوا على شريعة، فلما أسلم المشركون انحصرت المخالفة في أهل الكتاب، فأمر بمخالفتهم، وقد جمعت المسائل التي وردت الأحاديث فيها بمخالفة أهل الكتاب، فزادت على الثلاثين حكمًا”.
قلت: جزى الله من كان سببا في تحرير هاتين المسألتين، وهو من السادة أئمة وزارة الأوقاف، إذ سألني عن سبب صيامه صلى الله عليه وسلم عاشوراء، ثم عن سبب تأخره في ضم التاسع إليه، وقد ذكرنا سبب الأمرين، وتوجيه الكلام فيهما، ثم بدا لي أن أبحث في مسألة توجيه موافقات ومخالفات النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكتاب؛ فإنه وافقهم في مسائل، وخالفهم في مسائل، وقد بحث الحافظ ابن حجر شطر هذه الفكرة، فأحصى المخالفات، فبلغت فوق الثلاثين مسألة في عدِّه، بقي تفصيل الكلام فيها، ثم الكلام في الموافقات، ولو تهيأ لي بحث هذه الفكرة؛ لسميتها: [كشف النقاب عن موافقات ومخالفات النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكتاب]!
وبالله التوفيق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى