حمزه الحسن يكتب :سقوط الرهانات الكبرى

ـــــــ * ما هو أسوأ من العمى ان تكون مبصراً في مجتمع اعمى.
خوزيه ساراماغو. روائي برتغالي. نوبل.
نشر هذا المقال في 2003 / 4 / 4 والحرب مستمرة والنظام موجود ونهديه اليوم الى من أفاق بعد حوالي عشرين سنة ليخبرنا إن العراق في خطر.
لا أدري لماذا أشعر بغصة ضحك، رغم الألم المر، كلما رأيت خليل زادة ــــــــــــ المبعوث ثم السفير الأمريكي ـــــــ على شاشة التلفاز وهو يتنقل من مسؤول عراقي “معارض” إلى آخر .
فهذا الرجل كلف بمهمة أكبر منه، وبدور لا يقدر عليه حتى العفريت القادر على تحريك الجبال والريح والأمواج وإخراج الزير من البير.
يبدو أنه يرى العالم من منظار خاص لم يعد قادرا على رؤية شيء أو ظاهرة أو شخص هذا إذا كان من بين هؤلاء المعارضين ممن يمكن رؤيته بكل أنواع المجاهر والمكبرات وأدوات رصد النجوم المتلاشية.
وخليل زادة، هذا العريس الأفغاني الأصل، المتأمرك، وخبير صناعة الدمى، يخرج مشوش الفكر، عكر الوجه، كلما دخل غرفة مسؤول في دكان معارض ــ كلمة زعيم كبيرة ومخجلة ــ لغرض إقناعه بأمر ما.
حين يدخل غرفة يساري عراقي قديم متنكر بثياب الزوجة المطيعة، ورجل المرحلة المقبول، والحليف القوي للاحتلال،وبعد الدغدغة، والفرفشة، وخلع المستور، يكتشف تحت الوسادة منشورا عن الحرب الشعبية وصراع الطبقات ورفض الهيمنة الأمريكية ومقاطعة البضائع الإسرائيلية .
يخرج خليل زادة يتصبب عرقا ويحاول لصق ابتسامة على وجهه أمام العدسات وهو يشد على سرواله.
وحين يدخل غرفة مسؤول في حزب إسلامي معارض، تسمع من خلف الجدران، أصوات، وتكبيرات، ونداءات، وصلوات، وأدعية، وصرخات تهز صمت المكان.
بروح المكابرة، وبخبرة صانع صور، وسير ذاتية مزورة، يعلن خليل زادة أن مباحثاته كانت مثمرة وبناءة وجدية، وحين يسأل عن مغزى هذه الصرخات يقول أن الأمر لا يخرج عن نطاق حرية التعبير والشعائر وحرمة المقدسات أو أنها تأوهات ليلة الزفة.
لكن مشكلة خليل زادة تكبر والبلية تصير أعظم حين يدخل غرفة مسؤول حزبي كردي. إذ تهتز جدران الغرفة ويخرج سرب من الخفافيش من النوافذ وترتفع صيحات بكل اللغات العربية والكردية والإنكليزية والفارسية والتركية ونتف من الأفغانية والبشتو والأردو والسوارنية المنقرضة والآشورية القديمة وحتى بلغة الطيور الجبلية.
كلها تقول معنى واحدا: كركوك، كركوك.
خليل زادة في كل الأحوال، ورغم الخدوش الظاهرة على الوجه، وفتحة الصدر، ورغم الحزن الآسيوي المخفي بعناية رجل مهمة صعبة، لا يريد أن يعترف بفشل المهمة، ولا يريد الإقرار بنهاية زواج الإكراه.
لكنه في خلوة الزوج المهان يجلس في شرفته ليسجل ملاحظات عن سقوط رهانات كبرى لم تكن متوقعة قبل الحرب وبعدها، خاصة وأن الرجل يتعامل مع نماذج غريبة يختلط تفكيرها بين الأسطوري والواقعي والبرغماتي واليميني واليساري والانتهازي والاستشهادي.
كلما خرج هذا الرجل لمقابلة وسائل الإعلام، بدا شاحبا، ومهجورا، ومنفيا، وساهيا، وتالفا، وذاهلا. في كل مرة يحاول من جديد على ضوء خبرته السابقة المريرة ليتحدث مع هؤلاء المسؤولين مجتمعين بلغة جديدة ــ لتشكيل حكومة بعد الاحتلال.
لماذا لا يصارح هذا الرجل نفسه ويفهم، إذا كان فهم شيئا، أن الحرب، أية حرب، لا تسقط وتدمر وتحطم البنايات والمؤسسات والثكنات وتقتل البشر فحسب، بل تحطم قناعات وقيما وفرضيات وتحالفات ورهانات كبرى وصغرى كانت قائمة أو مستترة أو مخبوءة أو هي وليدة ظروف الحرب؟
الحرب لا تقتل البشر فحسب، بل تقتل اللغة، والقناعة، والعادة، والرتابة، والوثوقية، وطمأنينة ما قبل القنبلة الأولى، وتهشم أحلاما وأوهاما بنيت على الرمل أو بنيت على الحجر.
هذه الرهانات الكبرى التي سقطت حتى اليوم هي:
ـ سقوط رهان العمل من خلال الأمم المتحدة وسقوط الأمم المتحدة كرمز قبل سقوط بغداد.
ـ سقوط مفهوم الحرب النظيفة.
ـ سقوط ثنائية مع بوش أو ضد صدام أو بالعكس، لأن هذه الحرب ليست خيارا بين هذا وذاك كما يريد أصحاب ( الثنائيات التافهة) إيهامنا أو جرنا إليها.
هذا العقل المغرم بهذه الثنائيات هو عقل سطحي، أو عقل مستقيل، لا يرى ( إذا كان يرى) ابعد من أوهامه الصغيرة التي تنهار كل لحظة أمام سيل الحقائق وقسوتها.
ـ سقوط مفهوم الحرب الوقائية.
ـ سقوط مفهوم ديمقراطية القوة لأن الديمقراطية هي نتاج تطور اجتماعي وسياسي واقتصادي وتاريخي…الخ.
ـ سقوط نظرية الحياد الإسرائيلي في هذه الحرب/خاصة بعد إعلان إسرائيل أن الأسلحة الأمريكية المستخدمة في الحرب هي إسرائيلية، كما أن الدور الإسرائيلي الحربي على أرض العمليات واضح ومكشوف.
ـ سقوط الجامعة العربية وشعارات الدفاع المشترك.
ـ سقوط مفهوم الأمن القومي العربي وحل محله أمن الأنظمة المرتبط عضويا بالهيمنة الأمريكية.
ـ سقوط العقل العربي في رهانات خاسرة سواء تلك المؤيدة للحرب أو الرافضة لها.
ليست هذه الحرب هي دعوة لله أن ينصر أمريكا، ولا هي دعوة لنصر الدكتاتور، بل الدعوة الحقيقية هي ترك الشعوب تقرر مصيرها بنفسها وبوسائلها المتاحة والكف عن دعم الأنظمة الفاشية، وليس في سجل أمريكا اليوم أو في الماضي ما يؤكد عشقها للديمقراطية وهي التي دعمت أنظمة فاشية وأسقطت أنظمة منتخبة وديمقراطية أو وطنية في كل القارات.
ـ سقوط نظرية الأدب والشعر الصافي التي روج لها كثيرا، أي الأدب والشعر البعيد عن مناطق النار والالتزام، أوالأدب للأدب التي ظهر انها مخطط مخابراتي كما كشف كتاب” من الذي دفع للزمار؟” للباحثة ف.س.سوندرز المستند الى وثائق مخابراتية امريكية وبريطانية مفرج عنها.
ـ سقوط نظرية أو وهم الاستقرار( وهو يعني النهب في المفهوم الاقتصادي) بعد الاحتلال، وبوادر حرب مقاومة سرية،
بل أن النظام نفسه كان قد أصدر توجيهات لقواعده لخوض حرب سرية حتى بعد الاحتلال، واغتيال كل حكومة مؤقتة.
ليس بعيدا أن تنشأ انتفاضة عراقية بعد المشاهد التي نقلتها عدسات المراسلين ويظهر فيها أطفال يرشقون المصورين بالحجر مع قوات الاحتلال خاصة وأن أكثر من جيل عراقي تربى على تقاليد الطفل الفلسطني في الحجر.
ـ الأخطر من ذلك قادت الحماقة الأمريكية والإنكليزية إلى سقوط تحريم الأسلحة المحرمة عكس شعار الحرب بعد استعمالها القنابل العنقودية وغيرها.
ـ سقوط رهان حفل استقبال المحتل بالزهور.
ـ سقوط رهان صراع التكنولوجيا( ذكاء الأسلحة) ضد الاستبداد لأن القتلى هم في غالبيتهم من الأبرياء.
ـ سقوط رهان الحرب الخاطفة وعدم صناعة الرمز أو البطل بل التخطيط لحرب واستسلام يمنع بروز صدام حسين كقوة رمزية في العالم العربي، بل يظهره بمظهر المستسلم، وليس بمظهر المقاوم أو من يحاول أن يهزم هزيمة مشرفة.
هذه الحماقة الأمريكية ستؤدي إلى صناعة رمز للدكتاتور، بل إزالة صورته النمطية كمهزوم في حرب الخليج الثانية .
ـ سقوط رهان الحرب نفسها كخيار وحشي.
هذه هي أهم الرهانات التي سقطت حتى اليوم، أما الرهانات الكبرى الأخرى التي ستنهار بعد الاحتلال فهي:
ـ رهان الديمقراطية.
يقابل هذا الرهان حرب أهلية ضارية وتمزق اجتماعي وظهور مفاهيم جديدة واصطفاف جديد في المجتمع العراقي وفي الحياة السياسية إضافة إلى كل ما نعرف،
من تعاون مع المحتل، من رفض، من صمت، من قاوم..الخ ستستمر لسنوات قادمة.
ـ سقوط رهان الرخاء الاقتصادي المزعوم.
يقابله اليوم التنافس الشديد والشرس بين الشركات الأمريكية والإنكليزية حول حقول النفط والموانئ والموصلات:
كان مطلوبا تدمير عقد المواصلات لأن هناك شركات تنتظر إعادة اعمارها.
ومفهوم إعادة الأعمار هو مفهوم لصوصي مضحك ومن أخراج هذه الشركات وهو يعني نهب وسرقة ثروات العراق تحت مظلة زاهية.
كما أن الوعد بفتح الأنبوب النفطي نحو حيفا مبكرا وبدون رغبة شعبية هو استهتار علني بسيادة وثروة وطنية وليست سيادة سياسية.
ـ رهان الحرية.
وهذا الوهم سقط قبل غيره. فليس في التركيبة الحاكمة في أمريكا ما يوحي أن هؤلاء من أصحاب المثل العليا أو من حملة مشعل الحرية، بل هم بكل بساطة من أصحاب الكارتلات الكبرى، أي الشركات المتعددة الجنسيات، وهم يتنافسون على الغنائم والأسلاب منذ اليوم.
كما أن دعم هذه الإدارة لأنظمة عربية فاسدة وقمعية وعائلية قبلية ما يؤكد أن آخر ما يخطر ببالهم هو موضوع الحرية.
ـ رهان حكم النخبة.
وقد حذرنا مبكرا وقبل الحرب وفي مقال بعنوان صريح(وحش ينطلق، وقبيلة مركبة) إلى أن اليسار العراقي والنخبة الثقافية الوطنية والنقابات، ستكون أول من يتضرر، بل يسحق، بعد الحرب.
ـ رهان حكومة عراقية وطنية.
وهذا الرهان يعرفه جيدا خليل زادة في غرفه المتعددة وفي ليالي عرسه وفي الأصوات التي يسمعها سواء من تحت سرير النوم أو من فوق الحيطان أو من تحت الوسائد المطرزة بجماجم الأطفال والقتلى.
لماذا لا نبصق الحصاة ونقول الحقيقة؟
إن هذه الحكومة/ السلعة/ الحرب/ هي سقوط كبير لمفاهيم الحضارة عن الحرية والآخر والحياة والحداثة والقانون واحترام حقوق البشر حتى في الموت بصورة طبيعية. حتى في العيش بقرف.
لكن أقذر أنواع الثنائيات اليوم هو خيار دموي يتسم بشحنة ضخمة من الحقارة البشرية:
إن قتل الناس دفعة واحدة في هذه الحرب، هو أفضل من قتلهم على مراحل بيد النظام كما كتب دكتور عراقي هو طبيب جراح في بريطانيا وشيوعي تائب من الجماهير والطبقة والاشتراكية والتاريخ وواقع في غرام الرأسمالية المتوحشة حال باقي الرفاق.
العقل الايديولوجي عقيم والاقتراب من مؤدلج هو اقتراب من جهاز تسجيل لا يناقش بل يفرض وحتى الذين ادعوا انهم خرجوا من الحزب، فهؤلاء لم يخرجوا من العقلية في اعتبار الحقيقة ملكية خاصة وهم مصدر المعرفة والوطنية وثقافة الوصم بعد عشرات الاعوام من التلقين والخصاء العقلي . هذه الشريحة مصابة بعمى ايديولوجي لا علاج له بالمطلق وترى الحياة من خلال نصوص.
لماذا يراد حشرنا في كل مرة بين بربريتن: دكتاتور أو إحتلال؟ بين موتين؟
بين مقبرتين؟ صحيح أن صالونات التجميل، وعيادات شفط الدهون، ومقصات الجراحين، ومباضعهم تعمل بحماس اليوم لصنع حكومة احتلال محلية ووضعها في الواجهة كدمى موجهة عبر خيوط سرية، لكن كل مساحيق التجميل لن تخفي جثة طفل واحد.
هذه الدمى لن تنام إلا والمسدس تحت الوسادة حتى لو كان يقف على باب غرفة العرس أو الحكم كل جنود المارينز. ولن تخرج للشارع إلا في مصفحات.
ولن تستحم في الحمام بأمان حتى لو كان خليل زادة يسبح معها عاريا.
ــــــــــــ من واجب ودور المثقف والكاتب عدم الانجرار خلف الحشود ولا الإصغاء للاوصياء والببغاوات وتوابيت الاحزاب المتربة التي تحاول تلميع مساميرها الصدئة بل من واجبه الاستباق والتحذير وكشف المستقبل بصرف النظر عن كراهة او حب الجمهور لان الناس عبر التاريخ تحارب من يقول الحقيقة ومن يقولها عليه الرحيل حسب قول نيتشه.







