السفير معصوم مرزوق يكتب :ما الذي سقط في الشام ؟

عندما سقط نظام ” الأسد ” في سوريا ، وفر بشار إلي موسكو ، تناولت في ردودي لبعض الإعلام موقفي مما حدث ، وفوجئت بالسهام تناوشني من مواقع كثيرة ، كان أبرزها ، وأشدها ألماً الموقع القومي العربي أو من بعض أصدقائي فيه ، وهم يدافعون عن بشار ويرفعونه إلي مصاف زعماء التيار القومي العربي ، ويقولون أنه كان ضحية مؤامرة كونية لتمسّكه بأهداب القومية العربية …إلخ .
وليس لدي أي غضاضة من إختلاف الرأي ، بل أرحب به وأسعي إليه بإعتباره مساحات ضوء إضافية تتيح الرؤيا الشاملة ، ولكن في مواجهة إتهامات غير منصفة ، تتجاوز مجرد الخلاف المحمود في الرأي إلي حواف إغتيال الشخصية ، مع حواشي لا لزوم هنا لتكرارها ،وجدت نفسي أسطر المقال التالي الذي حمل نفس العنوان أعلاه “ما الذي سقط في الشام ” ، ولا أدري كيف لم أحاول نشره قبل عام .. ربما لحرصي علي عدم زيادة شقة الخلاف ، أو لمجرد أحوالي الصحية التي لم تكن مستقرة أغلب فترات العام المنصرم ( وحتي الآن ) ..
ولقد وجدت بي رغبة في محاولة نشره ، ربما لمجرد ترك تسجيل برأي ينضم إلي آراء أخري قد يكون لها فائدة ما ..
ما الذي سقط في الشام حقاً ؟
ربما يكون من المفيد في البداية طرح بعض الملاحظات الهامة قبل الخوض في التحليل :
اولا: ليس مفهوما غضب بعض المحسوبين علي “القوميين العرب ” حيال أي محاولة لإنتقاد نظام الأسد ، أفلم يكن نظام الأسد ( اب وإبن بل وعائلة إذا اضفنا رفعت الأسد ) في سدة حكم سوريا لأكثر من نصف قرن ؟ ، واي حساب للنتيجة التي وصلت إليها سوريا لا يمكن أن يتفادي مسئولية ذلك النظام .
ثانياً: هل يحاول هؤلاء الربط الشرطي بين “القومية العربية ” ، وبين ” الأستبداد ” وشيوع الظلم والفساد ؟… هل هناك دعاية أسوأ من ذلك لهذه القومية !.
ثالثاً: أن نظام الأسد لم يسقط بالأمس ، بل سقط منذ زمن طويل حين قتل ما يزيد علي 40 ألفاً من مواطنيه في ” حماه ” ، ثم ما يزيد علي نصف مليون خلال الحقبة الأخيرة ، فضلا عن عشرات الآلاف من المعتقلين ، وما يزيد علي 4 مليون مواطن اضطروا للفرار من بلادهم ويعيشون حاليا في الشتات .
رابعاً: ثم أن هذا النظام لم يسقط بسبب أنه كان يقود الممانعة ضد العدو الصهيوني ، أو أنه كانت هناك مؤامرة كونية ضده ، فمن الثابت أن نظام الأسد ( اب وإبن ) لم يطلق طلقة في اتجاه العدو منذ انتهاء حرب اكتوبر 73 ، وقد أثبتت الوقائع الحالية أن الكيان الصهيوني كان أكثر إطمئناناً في وجود ذلك النظام ( ولذلك سارع الكيان عندما أحس بالخطر بعد فرار بشار ، إلي احتلال بعض المواقع الإضافية في الأراضي السورية ).
خامساً: ليس صحيحا أن تلك الممانعة المزعومة هي التي أدت إلي تمزيق الخريطة السورية ، بل أن ذلك النظام تسبب في إقتطاع أجزاء كبيرة من التراب الوطني ، من خلال سياساته الخاطئة التي اعتمد فيها علي الإجراءات الأمنية والقهر ، ولم يعد يستند إلي الرضا الشعبي .
سادسا وأخيرا ( وليس آخراً): كاتب هذه السطور ” قومي ” ، و”عاشق ” لسوريا منذ كانت ” الأقليم الشمالي ” . ويحزنني مزايدة البعض والمسارعة بإلقاء الإتهامات جزافاً بلا ترو .
ما حدث في سوريا يعكس تلك الخصائص التي تعبر عن أزمة حكم أصبحت تجمع ما بين بعض الدول المتقدمة مع الدول المتخلفة ، والأسباب كثيرة ، أبرزها غياب الثقافة السياسية ، وسيادة المفهوم الشمولي للحكم ، وإهتزاز مرفق العدالة ، ضمن خصائص أخري تتعلق بالتاريخ والإقتصاد .
ومع ذلك يبقي بشار وأمثاله نماذجاً متطرفة ، لذلك تتفجر من حولها الدماء.
ولا يبدو أن هناك دواء ناجع لهذه السموم التي تنخر بعض المجتمعات في هذا الصدد ، لأن تلك الخصائص السابق الإشارة إليها ليست مجرد أعراض طارئة يمكن مواجهتها بمضادات حيوية مناسبة ، فعلي سبيل المثال ” الثقافة السياسية” التي تتعامل معها أغلب هذه المجتمعات بإعتبارها ” زائدة دودية ” ، لا يمكن علاجها من خلال إجراءات فوقية ، مثل المؤتمرات والندوات ، وما يشبه معسكرات الكشافة.
” الثقافة السياسية ” هي نتاج تضافر عوامل عديدة أبرزها الممارسة الديمقراطية في إطار كوابح دستورية مناسبة تحول دون التطبيقات المشوهة .
كذلك تلعب العملية التعليمية دورا هاما ًفي تأسيس المفاهيم الجوهرية التي تصبح كالنقش علي الحجر بالنسبة للأجيال الناشئة.
كما يلعب الإعلام دورا ترويجيا هاما في هذا الصدد ، من خلال تناول ناضج ( غير تعبوي ) ، كي تصل المعلومات الضرورية للمجتمع ( حكاماً ومحكومين ).
واخيرا ، وليس آخراً ، تحتل مكانة لا تقل اهمية الصور التي تعكس المواقع السياسية والتشريعية ، وكذلك الحزبية وجماعات الضغط المختلفة ( كالنقابات والجمعيات الأهلية غير الهادفة للربح ) ، فبقدر سلامة وشفافية تلك المواقع وتحليها قدر الإمكان بالتطهر من آفة الفساد والشللية ، بقدر ما تؤثر إيجابيا في الوعي السياسي للمجتمع .
وغني عن الذكر أن مسألتي ” المفهوم الشمولي للحكم ” ، وتوازن مرفق العدالة وتنزهه عن عاهات السياسة ، يتأثران كثيرا بما تقدم حول ” الثقافة السياسية ” ، التي يمكن أعتبارها في ذات الوقت سبباً ونتيجة لحماية المجتمع من تلك الآثار المدمرة مثل التي كشفت عنها أحداث سوريا .
وربما يمكن أن نري بوضوح الآن ، ما الذي سقط في الشام ، وليس فيه ما نبكي عليه ، بعد أن أبكانا ، وأبكي الملايين من السوريين ( واللبنانيين )ردحا من الزمان ، وذهب غير مأسوف عليه.









