رواية « ساق الريح » لليلى مهيدرة …الرمزية الثقافية للجسد نجيب العوفي- المغرب

من بَدائه السرد، ان كل نص سردي مُخترق ومسكون بالجسد بدلالته الانطولوجية العامة. أي مسكون بالشخصيات les personnages كمكوّن أساس ومحوري متعيّن في فضاء النص من خلال الدّال اللغوي . لكن العبور من ظاهر الجسد وسيميائيته الخارجية، إلى سبْر حميميته وذاتيته والغوص في سيكولوجيته وفك شفراته، يضعنا تجاه الدلالة الحسية – الإيروسية للجسد ، ورمزيته الثقافية والاجتماعية
وما إن نتلفظ بكلمة جسد ، حتى يحضر هذا الإيروس كمعنى حافّ ومصاحب ، حسب الاصطلاح اللساني .
من هنا يحيل الجسد مباشرة إلى المحظورين، الدين والجنس، ويضعنا في قلب الثنائية الضدية – الملغومة.ثنائية المقدس والمدنس .
ولعل ملفوظ الجسد والسرد ، يحوم حول هذه الضفاف الدّلالية، ولا يكتمل جسد السرد إلا بجسد المرأة ، على هذا النحو أوذاك . وواضح ان الروايات والسُرود التي تقارب الجسد ، تخترق في الغالب خطوطا حمْرا ، وتقتحم التابو الأخلاقي – والاجتماعي .ومعظم الروايات التي قرأناها عربيا وغربيا ، هي روايات أبيسية ، يحضر فيها الجسد الأنثوي من خلال رؤية ذكورية ، للرجال فيها حضور وهيمنة ، وصولة وجولة.
لكن في العقود الأخيرة ، بدأنا نقرأ روايات نسائية – أميسية ، يحضر فيها الجسد من خلال رؤية أنثوية ، للنساء فيها حضورٌ وهيمنة ، وحساسية جسدية وسردية من طراز خاص .وبعض هذه الروايات كانت جريئة في اقتحام تابو الجسد وخطوطه الحمر .
ونفكر هنا بخاصة في روايات ليلى العثمان وأحلام مستغانمي وسلوى النعيمي وغادة السمان وفاتحة
مرشيد ورجاء الصائع وحنان الشيخ .. ولا نحصيهن عدّا .
وربّما أنزع هنا عن هاجس أبيسي ضارب في الأغوار. وكلّ بطبيعة الحال ، ينزع عن قوسه .في مساق هذه الروايات العربية – النسوية ، تأتي رواية ( ساق الريح ) للكاتبة ليلى مهيدرة ، لتقارب بدورها تيمة الجسد ومن منظور نسوي ، بحَذر واحْتراس ومن وراء حجاب إبداعي ، متحاشية هتك الستار وخَلْع العِذار. بما يعني سيكولوجيا حضور الانا الأعلى جنبا لجنب مع جيَشان وموَران اللاشعور الإيروسي . وبما يجعل بطلة الرواية الساردة – والمسرودة تعيش حالة انفصام شيزوفرينية بين الرغبة والتوجّس . بين الإقدام والإحجام .
كما يتعرّض السرد بدوره لشيزوفرينيا سردية تلتبس فيها الضمائر السردية وتتماهى وتغدو أنا الساردة أنا مضاعفة le moi en double ، تتحدث تارة عن نفسها بالضمير الاول أنا ، وتتحدث تارة أخرى عن نفسها بالضمير الثالث هي ، إذ تجعل من هذه الهي بطلة لروايتها المتخيلة . فتنشطر الشخصية لذلك إلى شخصيتين متداخلتين – متخارجتين وهذا ما تعلنه الساردة صراحة إذ تقول في ص. 47 /
( لربما أكون مصابة بانفصام في الشخصية ، وعقلي الباطني يداعب مخيلتي ( وثمّة عبارة بليغة تكثف هذه الشيزوفرينيا / ( وقفت أمام نفسي المطلة من مرآتي أستمدّ منها قوتي(
وقد تجنح الساردة أحيانا إلى الضمير الثاني انت عبر السرد الحواري .
هكذا يغدو هذا التعدد في الرؤى السردية شبيها بلعبة استغماية سردية .أولعبة دمى سردية ، ضمير يخفي ضميرا .
والرواية لذلك ، وعلى امتداد صفحاتها ، تبدو منولوجا سرديا ملغوما بأحاسيس واستيهامات الأنثى . أنثى وحيدة ومنعزلة منطوية على رغباتها وصَبواتها الكتيمة – الكظيمة .
ومنذ البداية ، منذ السطور الأولى ، تفتح الرواية أفق الانتظار أمام المتلقي وتزرع نواة عقدتها – وتيمتها ( بسبق الإصرار والترصد أقرر فتح الرسالة دون ادنى إحساس بتأنيب الضمير. فالرسالة قادمة من مجهول وموجهة لامراة غيري ، ومع ذلك اقتحمت خلوة حروفها بشغف كبير وبانتظار أقلّ ما يقال عنه ، إنه شوق متخف في زيّ حب استطلاع .. )ص.7
تلك هي نواة الرواية المركزية التي ستتوالى عبر صفحاتها ككرة الثلج تزداد كثافة وامتلاء عبر رسائل متخيلة منه إليها ومنها إليه ، ضمن مشروع رواية متخيّلة . أي ضمن رواية تفكر في الرواية .والمحصّلة، هي رواية رسائلية أو تراسلية، تنفّس فيها الساردة عن استيهامات روحها وجسدها.
منذ السطور الأولى أيضا، تكشف لنا الساردة عن طوْق الوحدة والعزلة المضروبِ حولها .
فهي قاطنة في الطابق الأرضي من عمارة سكنية ( شبه فارغة إلا من رجل عجوز أجنبي ، وأسرة حديثة العهد بالزواج والإقامة ، وان باقي الشقق لم تُعْمر قط ..) ص. 7ولذلك تكون أول من يتلقى الرسائل .
حافز هذه الرواية إذن وهاجسها الأساس ، هي وحدة الساردة وعزلتها ، واحتقانها العاطفي والجسدي ، وتوْق أنوثتها لنصفها الآخر . توق الجسد للجسد .
تقول في ص. 42 /( لمَ تستثنيني الطبيعة من انوثتي وترغمني أن اعيش الوحدة حتى أموت صمتا ؟ )ومن ثم كانت الرسائل التي تسْترقها بين الفينة والأخرى ، بمثابة نافذة إغاثة لوحدتها وكُربتها ، فاستطابت فتحها وقراءتها وتماهت معها وكأنها المرأة المعنية . بل أضحت تغار من المرأة الأخرى المقصودة بالرسائل .
لقد حركت فيها الرسائل كوامن أنوثتها الهاجعة ، ودغدغت جسدها المُسيّج بليل الوحدة . وأنشأتها خلْقا جديدا .(فهذه الرسائل المجهولة المصدر، قد أذابت الجليد بداخلي، وأشعلت شموع أمل انطفأت منذ زمن) ص . 12. وسأقصر هذه الورقة ، على رصد بعض التجليات الجسدية لأنثى هذه الرواية –الساردة – الحالمة التي تحمل اسما رمزيا دالا ومفخّخا هو « حلم « .ذلك ان الرواية تدور من ألفها إلى الياء ، في فلك الحلم والمتخيّل .وعلى امتداد الشريط السردي ، نحس بالاحتقان الداخلي للجسد وصبواته الليبدوية الدفينة .وثمّة مدارات ومنافذ جسدية – اسْتعارية أثيرة ، يلوذ بها الجسد لتصريف احتقانه ونقْع غُلّته .
كالبحر، وسقف الغرفة، وفنجان القهوة، والشارع، ومكتبة الرصيف..
إن هذه المدارات والمنافذ ، تتكلّم لغة الجسد وترشح به . ويجد فيها الجسد ضالته ومتخيله ونصفه الغائب. نصّه الغائب .وتبدو لذلك ، علامات وأيقونات سردية متواترة الحُضور في النص الروائي .
تبدو مهيمنات dominantes ناطقة بلسان الجسد .وأظن ان الإنصات للنص ، كاشف عن هواجس النص .
عن علاقة الجسد بالبحر ، نفْتلذ الفقرة التالية من ص .53/( ..وأنا على شاطئ مدينتي ورياحها العاتية ، فأمارس لعبة التعري طبقا لقانونها ، فأتمنع وانا الراغبة ، وأرتمي في حضن موج يجيد ملامسة الأنثى بداخلي. جسدان من ماء ونار. يحتاجان ليرسما ثورتهما علنا في لقاء عنيف ..)كأنّ البحر هنا يتجسْدن ويتعرّى أمام جسد الانثى. كأنها امام فحولة البحر .وعن علاقة الجسد بسقف الغرفة، نفتلذ الفقرة التالية من ص. 46
(أصحو وبداخلي شوق عارم للرسائل ولباعثها . لا أدري لمَ . في يوم عطلتي بالذات يتملكني هذا الكم من الاجتياح لمشاعري . ليغرقني حتى النخاع في الأحلام .
ربما لأنه اليوم الوحيد الذي اجدد فيه العناق مع سقف غرفتي ، وأنا متمددة على فراشي .. ) .إن هذه الفقرة لوحدها ، تحتاج لقراءة سيميائية – تأويلية لفكّ شفْراتها والغوص في السيكولوجيا المتلبّسة للجسد / سقف – تحت – عناق – فراش .. الخ وأنا هنا أجمل ولا أفصل . وأشمّ ولا أفرِك .
بيد ان العناق الفعلي الذي تحقق لهذا الجسد ، تمّ خلسة وفي العتمة ، وفي حافلة متجهة إلى الرباط ، مع جليسها الشاب ذي العقال الفلسطيني المنسدل على كتفيه .لم يكن هذا الوصل العابر ، إلا خلسة مختلس. بما ينمّ عن أن أنثى ( ساق الريح ) موزعة بين إيروسها الخاص التواق للانطلاق ، والتابو الاجتماعي الواقف بالمرصاد .أي بما يكشف أنها تمارس ذاتها وجسدها من وراء حجاب .وتلك بالضبط ، هي الشيزوفرينيا الشقية الآخذة بخناق المجتمع .تلك هي الرسالة المضمرة خلف السطور .إن الجسد هنا يمارس نميمة ثقافية – اجتماعية .
لهذا يبقى الشارع فضاء فسيحا للتنفيس عن ذاتها ومكنوناتها ، واستدعاء استيهاماتها وأخيلتها . فيغدو العالم الخارجي مسرْبلا بعالمها الداخلي الخاص .ويخرج الآخر ، فارس الأحلام الساكن في ذاكرتها ووجدانها ، من تضاعيف الرسائل تارة ، ومن تضاعيف رواية تارة أخرى ، ليتأبّط ذراعها في شوارع مدينتها .كما تبقى مكتبة الرصيف ، منتجعا ثقافيا – تعويضيا أثيرا للساردة ، يحرّرها من احتقاناتها وإحباطاتها الداخلية ، العاطفية والجسدية .
من هنا تحضر الثقافة ، والعلامات الثقافية والانتقادات الثقافية بجلاء في هذا النص.ولربما كانت الثقافة هي عزاء وسلوان الساردة في وحدتها وعزلتها . وهي البلْسم المخفّف لتوقها العاطفي والجسدي . هي التصعيد السيكولوجي لهذا التوق ، أو هي ضرب من التطهيرCatharsis حسب أرسطو ، إلى جانب كونها امتيازا ذاتيا .
يبدو بناء هذا النص الروائي المتوسط الحجم ، من قبيل السهل الممتنع .إذ يبدو بوحيا – منولوجيا وانسيابيا في ظاهره . لكن عند التوغّل في قراءته ومتابعة رسائله والتقاط الرسائل الثاوية في الرسائل ، يبدو نصا مركبا حلزونيا وملتبسا .إن الالتباس والتداخل هما سمته السردية – البنائية . كما ان الاحتقان العاطفي والجسدي ، هو سمته التيماتيكية والدلالية .إنه محفل سردي تتداخل وتتماهى فيه الأزمنة والأمكنة والشخوص ، وتتقاطع فيه المشاهد الاجتماعية مع الانطباعات الذاتية والمداخلات الثقافية ، بدون خيطية حدثية – وبنائية ، وحبكة ناظمة ولاحمة .هو محفل منولوجي في الأساس يعتمد آلية التداعي الحر والتخييل الذاتي من ألفه إلى الياء ، بالمعنى الذي يعطيه سيرج دوبروفسكي لمصطلح التخييل الذاتي autofiction كتوسعة خيالية روائية للسير – ذاتي .وهي آلية سردية سمحت للساردة بنفض مكنوناتها ومخزوناتها على السجيّة وبلغة تنُوس بين النثر والشعر ، بين السرد والشعر . وفي الرسالة الأخيرة استهلال شعري في قالب رسالة شعرية . وغير خاف أن الكاتبة شاعرة وقاصة أيضا قبل أن تجنح صوب الرواية .
مع ملاحظة نقدية أساسية ، وهي أن هذه الرواية بنفَسها السردي ،تتحرك في منزلة وُسطى بين الرواية roman والقصة nouvelle ، وكان في إمكانها أن تؤتي أكلها سائغا وكاملا ، لو نضجت على نار هادئة ، وخضعت لبرمجة سردية متأنية الصنعة. إذ تبدو السيولة المنولوجية هي الآخذة بعنان السرد . كما تبدو رسائلها الأربع قريبة من اللوحات القصصية .وكلّ هذا البوح السردي ، أخيرا ، العاطفي والجسدي المنداح عبر رسائل هذه الرواية ، كان أضغاث أحلام . وذهب آخر المطاف ادراج الريح .
ذلك ما اختُتمت به الرواية في سطورها الأخيرة /( ما لي والحيرة وقد انتهى كل شيء .والرواية التي عشت زمنا أرص حروفها حررتها ريح عابثة ، وتركتني على جنباتها راوية لرواية لن تروى ) ص.94
وذلك ما يلقي الضوء على عنوان الرواية ( ساق الريح ) .
فسواء أكانت لفظة ساق هنا فعلية ، من ساق يسوق سوقا ، أو اسمية من الساق ، فإن الريح بدّدت كل الأخيلة والأحلام التي سبحت في أجوائها الساردة «حلم» ، وأضحت قبض ريح .لكنها لم تبدّد الحروف والكلمات . لم تبدد الرواية .
وذلك هو الكسب الإبداعي للساردة .