الحروب وهشاشة القيم ……بقلم د. محمد محمود أسعد

لطالما كشفت الحروب عن مساوئ الشعوب وأظهرت عن كثب هشاشة القيم المجتمعية التي كانت تفتخر بها يوماً ما تلك الشعوب، حتى قيل إن الحروب ضيّعت القيم الإنسانية قبل أن تُضيع الانسان نفسه.
حقاً، إن ضعف منظومة القيم المجتمعية نتيجة الحروب هي فجيعة لا تقل في مستواها عن مأسي تلك الحروب في تدمير الإنسان قبل البنيان.
جشع التجار وسعيهم لرفع الأسعار والتسبب في الغلاء المتصاعد يوما بعد آخر في أسعار الاحتياجات اليومية ورفع إيجار المنازل في المناطق الآمنة وشبه الآمنة، وانتشار قطاع الطرق، وكثرة حالات الخطف والترهيب، واستلطاف التخوين، وجرائم النهب بحجة الموقف المخالف، وخشونة المعاملة، والبذاءة في الألفاظ، كلها نقائص تظهر جليا على السطح خلال الحروب من شأنها تسريع انحدار القيم المجتمعية وصولا للقاع.
إن إعادة بناء تلك القيم المتهالكة يتطلب جهودا مضاعفة وأولويات قصوى في مشاريع الإعمار تبدأ بالإنسان ثم الإنسان ثم البنيان.
أبدا لا أظن أن الحل في مشاريع إعادة إعمار وتحسين القيم الأخلاقية المتهالكة يبدأ من القاعدة أو من الفرد ذاته ولا يمكن أن يكون ذلك طوعاً، ولن يكون الرجوع لما سبق أمرا سهلا لان الأمور ما بعد الحروب أبدا ليست كما قبلها.. إنما يستوجب أن تبدأ مشاريع إعادة إعمار القيم من رأس الهرم والقمم. إن مدد الحروب مهما قصرت أو طالت تبقى عصيبة تعصف بالجميع قد يكون عصفها عليهم بنسب متفاوتة لكنهم في النهاية الجميع مشتركين في النتائج.
لم تكن الحروب بأي حال من الأحوال فقط اقتتال بين متنافرين باختلاف هدف أو مبدأ، بل أحياناً انفجار مجتمعي تقشعر له الأبدان وتجف فيه مياه الوجوه. والخاسر الأكبر هو الإنسان.
إن استعادة هيكلة منظومة القيم المتهالكة جراء الحروب تتطلب تنظيما دقيقا وإلزاما حازما من جميع أطياف المجتمع، كبيرهم وصغيرهم، رجالهم ونسائهم، شقيهم وسعيدهم من خلال حملة كاملة متكاملة يخضع لها رأس الهرم قبل أدناه وتُفرض قوانين صارمة بحق كل من يخالف. فعلو الحق عادة يتحقق إذا ما استجاب الجميع من أفراد المجتمع كبيرهم قبل صغيرهم لأمر الله وصوت العقل في إعادة الإعمار ونشر الفضيلة وتعزيز أسباب السلم واستمرارية الحياة.
ما كان سببا في اندلاع الحروب لا يمكن أن يكون حلا في إخماد نيرانها ولا يمكن أن يكون سببا في استرجاع القيم المهدورة، إذاً الأمر يتطلب تدخل أهل العلم الديني والدنيوي وأصحاب الحكمة والقانون المعروفين بالنزاهة أصحاب الأيادي النظيفة التي لم تُلوّث بقتل أو تدمير أو إشاعة فوضى.. الحريصين على الاحتفاظ بما تبقى واستعادة ما ضاع من قيم مجتمعية، واسترجاع أمان كان يوماً ما هوية وطنية وميزة ينعم فيها جميع أفراد المجتمع، وإن لم يتحقق شيء من ذاك -للأسف- سينطبق على المجتمع ما قاله شاعر النيلين: أحمد شوقي:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا